الحقوق محفوظة لأصحابها

سعد الشثري
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

أما بعد..

هذا هو اللقاء السابع من لقاءاتنا في شرح "كتاب الورقات"، كنا تكلمنا في اللقاء السابق عن التعارض والترجيح، وأحكام النصوص المتعارضة وكيف نتعامل معها.

في يومنا هذا -بإذن الله جلَّ وعلا- نتكلم عن عدد من الأدلة الشرعية.

أول هذه الأدلة: دليل الإجماع.

ما هو دليل الإجماع؟

يعني أنه إذا كان هناك اتفاق من العلماء في عصر من العصور على حكم شرعي؛ فإنه يكون حجة شرعية يجب العمل بذلك الاتفاق، ولا يجوز لنا أن نخالف هذا الاتفاق.

مثال ذلك: أجمع الصحابة -رضوان الله عليهم- على عدد من المسائل، فحينئذٍ يكون إجماعهم حُجة شرعية يجب العمل بها.

ومن أمثلة هذا مثلًا: أجمع التابعون على أن المرأة الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد وتحاد إلى وضع الحمل ولو كان ذلك لمدة قليلة، فهذا إجماع من التابعين، فيكون حجة شرعية.

مثال آخر: إذا مات الميت وترك بنتًا وبنت ابن، البنت لها النصف بنص القرآن، وبنت الابن لها السدس، لماذا أعطينا بنت الابن السدس؟ لوجود إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم- على إعطاء بنت الابن السدس إذا كانت مع البنت.

هذا ماذا يسمى؟ الإجماع.

وقد عرف المؤلف الإجماع بقوله: (هو اتفاق علماء)؛ يعني العامة الذين ليسوا بعلماء لا دخلَ لهم.

(اتفاق): لو كان هناك اختلاف ولو من واحد من العلماء فإنه لا يكون هناك إجماع، لا يكون إجماع إلا بقول جميع الفقهاء.

(اتفاق علماء العصر)، يعني الزمان الواحد، لا يُشترط أن يكون الاتفاق من الفقهاء في جميع الأزمنة، لأننا لو قلنا بذلك لما كان هناك فائدة للإجماع، لأنه يكون حينئذٍ يكون لقيام الساعة، وبالتالي لا يوجد عمل، وإنما نقول: اتفاق علماء عصر من العصور على حكم حادثة.

وقال: (نعني بالعلماء: الفقهاء، ونعني بحكم الحادثة: المسألة الجديدة، أو الحادثة الشرعية)، وإجماع هذه الأمة حجة، إذا وُجد إجماع من علماء عصر من العصور؛ فإنه يكون من الأدلة الشرعية التي يجوز، أو التي يجب العمل بها، ولا يجوز لنا أن نتركها.

قد يقول قائل: هل الإجماع خاص بعصر الصحابة. نقول: لا، الإجماع حُجة في جميع العصور حتى في عصرنا الحاضر.

نمثل لذلك بأمثلة: في العصر، في القرن السابع استحدث الناس الحشيشة المخدرة المُسْكرة؛ فوقع إجماع من علماء ذلك العصر على أنها محرمة، وأنها موجبة للحد، هذا الإجماع حُجة شرعية يجب العمل به.

طيب.. في عصرنا الحاضر وُجدت إجماعات، منها إجماعات قولية ومنها إجماعات فعلية.

ومن أمثلة ذلك مثلًا: وقع اتفاق العلماء على استخدام الجوال وجواز المهاتفة به، فهذا إجماع في هذا العصر.

وقع إجماع من علماء العصر على فرش المساجد بهذه الفرش، كانوا في السابق يضعون بطحاء، وبعضهم يضع الحصير، وعلماء عصرنا مثلًا اتفقوا على وضع لاقطات الصوت في المساجد من أجل أن يستمع الناس لقراءة الإمام، هذا اتفاق من علماء العصر.

إجماع الأمة حجة بالنسبة لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أما الأمم السابقة فليس إجماعهم حُجة. لماذا ليس إجماع الأمم السابقة حجة؟ لأنه لم يرد دليل يدلُّ على صحة الاستدلال بإجماع الأمم السابقة، أما بالنسبة لهذه الأمة -أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فإن إجماعها حجة شرعية يجب العمل بها.

ما الأدلة الدَّالة على حجية الإجماع؟ هناك أدلة كثيرة، منها:

- قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، وهذا الحديث قد ورد من طريق عدد من الصحابة بأسانيد يُقوِّي بعضها بعضًا.

- ويدلُّ عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق»، هذا الحديث متفق عليه، أفاد بأنه لا بد أن يوجد في كل زمان قائل بالحق.

فإذا كان الفقهاء كلهم يقولون بقول واحد، معناه أن ذلك القول هو الحق؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر بأنه لا بد أن يوجد في كل زمان قائل بالحق في هذه الأمة.

قال: (والشرع ورد بعصمة هذه الأمة)، يعني أن هناك أدلة شرعية تدل على أن اتفاق علماء عصر من العصور معصوم من الخطأ، وأنه لا يقع فيه ضلالة، لا يقعون جميعًا في زللٍ أو ضلالة.

وقد جاءت أدلة تدل على أن هذه الأمة معصومة، هناك بعض الفقهاء استدل بآيات قرآنية كما استدل الإمام الشافعي على حجية الإجماع بقول الله -عز وجل: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 115].

إذا وقع إجماع في العصر الأول كعصر الصحابة؛ فإن عصر التابعين لا بد أن يلتزموا بالإجماع السابق لهم، ولو حدث خلاف، يعني لو قُدِّر أن هناك مسألة مُجمَع عليها مثل مسألة ميراث بنت الابن التي ذكرت قبل قليل، فجاءنا أحد المعاصرين وقال: أنا سآتي باجتهاد جديد، وقال: بنت الابن تأخذ الثلث، فحينئذٍ نقول: هذا القول قول باطل، لماذا هو قول باطل؟ لأنه قد خالف الإجماع في العصور السابقة، وما خالف الإجماع فإنه لا يُلتفت إليه.

وهكذا أيضًا إجماع العصر الثاني، وإجماع العصر الثالث، ومثَّلنا له بالإجماع على تحريم الحشيش، ومثَّلنا له بالإجماع على بناء المساجد من البناء المُسلح الحديث.

قال المؤلف: (ولا يشترط انقراض العصر على الصحيح)، يعني لو قُدِّر أن العلماء اجتمعوا في وقت واحد فكلهم قالوا بشيء، ثم من الغد أحد هؤلاء الفقهاء خالف اجتهاده السابق، وقال: كنت أمس أقول يجوز، واليوم أقول: يُمنع منه.

فإذا اتفقوا في اليوم الأول أو في لحظة، فهل يكون اتفاقهم ذلك حجة وإجماع يجب العمل به؟

أو نقول: لا يكون حجة إلا إذا انقرض أهل العصر، فلا بد أن يموت أولئك المُجمِعون وينقرض العصر؟

هذا من مواطن الخلاف بين الأصوليين، والمؤلف يرى أنه ينعقد الإجماع بالاتفاق ولو للحظة واحدة، ولا يُشترط انقراض العصر.

ويستدل المؤلف ومَن يرى رأيه بالأحاديث الدَّالة على عصمة الأمة، مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، ولعل هذا القول أرجح خلافًا لقول فقهاء الحنابلة.

قال المؤلف: (فإن قلنا: انقراض العصر شرط) هذا تفريع على القول الثاني الذي يقول: لا ينعقد الإجماع إلا بموت المُجمِعين ووجود عصر جديد، فحينئذٍ على هذا القول، القول الأول: إذا اجتمعوا في لحظة فلا إشكال فيه، يكون إجماعًا.

على القول الثاني الذي يقول: انقراض العصر شرط، يقول: لو قُدِّر أنه نشأ في عصر المُجمِعين ناشئة جديدة، طائفة، أبناؤهم، وأصبح واحد منهم تفقه وأصبح فقيهًا، وصار من أهل الاجتهاد، فحينئذٍ إذا خالف هذا المُجتهد في نفس العصر قبل أن يموت الأولون، فإن قوله يكون معتبرًا، ولا ينعقد الإجماع بدون قوله.

وعلى القول بأن انقراض العصر شرط، فإنه يجوز للمُجمِعين الأوليين أن يعودوا عن قولهم وأن يقولوا بقول آخر غير ما اتفقوا عليه.

وتقدَّم معنا أن الصواب: أن انقراض العصر ليس بشرط، وأنه متى اتفقوا في لحظة واحدة كان اتفاقهم حجة شرعية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، وهذا كما يشمل الاجتماع في جميع العصر يشمل الاجتماع في اللحظة الواحدة.

هناك تقسيمات للإجماع كثيرة، من ذلك:

- الإجماع القولي، كما لو تكلم جميع الفقهاء بحكم وتوافقوا على ذلك الحكم، فهذا إجماع قولي، وهو من أقوى درجات الإجماع.

- النوع الثاني: الإجماع الفعلي: بأن يتفق جميع فقهاء العصر على فعل من الأفعال يفعلونه، فيدل على إباحة ذلك الفعل.

مثال ذلك: وجدنا جميع الفقهاء في عصرنا الحاضر ركبوا الطائرات، فنقول: هذا إجماع فعلي من علماء العصر على جواز ركوب الطائرة والتنقل بها في الأسفار، هذا إجماع فعلي.

- هناك نوع ثالث، وهو: أن يقول البعض ويفعل البعض، فهذا أيضًا من أنواع الإجماع، كما في ركوب الطائرة، بعضهم ركب، وبعضهم ما ركب، لكنه أفتى وقال: يجوز الركوب. فهذا إجماع، النوع الثالث من أنواع الإجماع: الممزوج بين الفعل والقول.

- هناك نوع رابع: بأن يتكلم البعض وينتشر في الأمة ويسكت البقية، يسمون هذا الإجماع السكوتي.

وقد يُمثل له مثلًا: باستعمال لاقط الصوت في المسجد، بعض الفقهاء أفتى بالجواز، وبعض الفقهاء سكت، لم يظهر منه فتوى في هذا الباب، فهذا ماذا يسمونه؟ الإجماع السكوتي.

والصواب: أن الإجماع السكوتي إجماع صحيح وحُجَّة شرعية يجب العمل به ويصح الاستدلال به؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين»، فلا بد أن يكون قول الحق ظاهرًا في الأمة.

ومن ثمَّ لا يكون قول الحق خفيًّا لا يطلع عليه إلا أفراد الناس.

قد يقول قائل: هل المجامع الفقهية تكون إجماعًا؟ نقول: لا، الإجماع الشرعي الذي يُحتجُّ به: هو أن يكون من جميع فقهاء العصر، خصوصًا إذا عرفت أن قرارات هذه المجامع يكون بالأغلبية، ونحن قلنا في الإجماع قبل قليل أنه اتفاق جميع علماء العصر.

واضح الإجماع ومباحثه؟ هل عندكم فيه إشكال؟ الجميع واضح عنده؟ طيب..

ننتقل إلى دليل آخر من الأدلة التي يُستدلُّ بها، وهو: الاستدلال بقول الصحابي.

ومن هو الصحابي؟

للعلماء منهجان في حقيقة الصحابي:

- منهم مَن يقول: مَن لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو لحظة وهو مؤمن به ومات على الإيمان.

وبالتالي فجميع من وقف من النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع في عرفة، يقولون: هذا له صحابة، يقولون: هؤلاء صحابة، لأنهم قد لقوا النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنين به وماتوا على ذلك.

- والقول الثاني يقول: أشترط أن يكون الصحابي قد صَحِبَ النبي -صلى الله عليه وسلم- مدة حتى يعرف أقواله وهديه، ولذلك لا يُقال: صحب فلانٌ فلانًا إلا إذا جلس معه مدة من الزمان، قالوا: فهكذا في صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم.

والأظهر: أن هذين منهجان.

الأول: تعريف الصحابي بمجرد اللقيا، هذا منهج المُحدِّثين والرواة، ولذلك: إذا روى مَن يتصف بهذه الصفة حديثًا، قيل: هذا حديث متصل وليس بمرسل.

والاصطلاح الثاني: إطلاق لفظ الصحابي على مَن صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- مدة، وهذا أكثر ما يُستخدم هذا الاصطلاح في هذا الباب، قول الصحابي، حجية قول الصحابي.

قال: (قول الصحابي) يعني هل هو حجة أو ليس بحجة؟ هل يجوز بناء الأحكام عليه أو لا يجوز بناء الأحكام عليه؟

والمبحث هنا ليس خاصًّا بقول الصحابي بالقول فقط كما قد يُفهم من كلام المؤلف، بل أيضًا يشمل الأفعال.

أقوال الصحابة على أنواع:

- النوع الأول: قول صحابي يُخالف نصًّا شرعيًّا من الكتاب والسنة، فحينئذٍ نقول: هذا لا يُلتفت إليه، وليس بحجة شرعية.

- النوع الثاني: قول الصحابي فيما لا مدخل للرأي فيه، إذا بدأ يصف الجنة، وكان ذلك الصحابي لا يروي الإسرائيليات، فحينئذٍ نقول: هذا القول الظاهر أن له حكم الرفع، فهو مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لماذا؟ لأنه لا مدخل فيه للرأي.

- النوع الثالث: إذا كان القول مما للاجتهاد فيه مدخل، وكان الصحابة قد اختلفوا، فقال بعضهم بشيء، وقال بعضهم بشيء آخر؛ حينئذٍ لا يُحتج بقول أحد منهم.

مثال ذلك: في مسألة ما لو مات ميت وعنده جد وإخوة -جد للميت وإخوة للميت-، اختلف الصحابة، فقال بعضهم: الميراث كله للجد، وهذا قول أبي بكر وابن عباس وجماعة.

وبعضهم يقول: لا، الجد والإخوة يشتركون، وهذا قول زيد على تفصيلات بينهم في كيفية الاشتراك.

حينئذٍ هل يصح الاحتجاج بأقوال الصحابة؟ نقول: لا يصح الاحتجاج بأقوال الصحابة في هذه المسألة. لماذا؟ لوجود الخلاف بينهم، وليس قول بعضهم أرجح من قول بعضهم الآخر.

- النوع الآخر: إذا قال الصحابي قولًا وانتشر في الأمة ووصل الآفاق ولم يُنكره أحد، فهذا يكون إجماعًا سكوتيًّا -كما ذكرنا في النوع السابق-، ما يسمى هذا الإجماع السكوتي.

بعضهم يمثل له بقول ابن عباس عن مناسك الحج: "من ترك نسكًا؛ فعليه دم"، قالوا: ابن عباس مفتي الصحابة في مناسك الحج، وقوله يشتهر في الأمة ولم يوجد له مخالف، فكان إجماعًا سكوتيًّا.

مثال آخر: مَن جامع زوجته بعد إحرام الحج وقبل التحلل الأول، قال الجمهور: عليه بدنة، وفسد حجه، وعليه المضي في الفاسد، الحج الفاسد يكمله، وعليه أن يحج من السنة القادمة.

من أين أخذتم هذه الأحكام الغليظة القوية؟ قلنا: أخذناها من فتوى عدد من الصحابة كابن عباس وابن عمر وابن عمرو، ولم يوجد لهم مخالف من الصحابة، فكان إجماعًا سكوتيًّا.

- النوع الرابع: قول صحابي للاجتهاد فيه مجال، ولم يختلف فيه الصحابة، ولم ينتشر في الأمة، فحينئذٍ هل يكون قول الصحابي هذا حجة شرعية يصح الاستدلال به أو لا؟

مثال ذلك: لما تعامل بعضهم ببيع العينة، فقالت عائشة -رضي الله عنها: "أعلميه بأنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" هذا قول مَن؟ عائشة -رضي الله عنها-، هذا للرأي فيه مجال، ليس من الغيبيات، وفي نفس الوقت لم يختلف الصحابة فيه، وفي نفس الوقت لم ينتشر في الأمة. ما حكم هذا القول من الصحابي؟

إذن عرفنا مواطن الخلاف، عرفنا أنهم اتفقوا على ثلاثة أشياء:

1- ما لا مدخل للرأي والاجتهاد فيه، هذا له حكم الرفع.

2- ما انتشر في الأمة ولم يوجد فيه مخالف، فهذا إجماع سكوتي.

3- ما وقع فيه اختلاف بين الصحابة، فهذا لا يحتج بقول أحدهم دون غيره.

يبقى المسألة الرابعة وهي: ما إذا قال الصحابي قولًا للرأي فيه مجال ولم ينشر في الأمة، ولم يوجد له مخالف من الصحابة. هذا الموطن وقع الاختلاف فيه بين العلماء.

المؤلف يرى أنه ليس بحجة، وينسب القول بعدم حجية قول الصحابي إلى المذهب الجديد للإمام الشافعي، ما دليلكم؟ قالوا: عندنا أدلة:

الدليل الأول: أن النصوص الشرعية إنما أمرتنا باتباع الكتاب والسنة، ما أمرتنا باتباع قول أحد من الناس حتى من الصحابة. ما دليلكم؟ قالوا:

- قوله -عز وجل: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [النساء: 59]

- وقال -تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10]

القول الثاني -وهذا ظاهر كلام المؤلف-، القول الثاني: أن قول الصحابي حجة شرعية يجوز بناء الأحكام عليها، والقول بهذا هو قول الجمهور، وهذا هو قول أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد وجماعة.

من رأى هذا القول -أن قول الصحابي حجة- قال: النصوص قد أثنت عليهم وأمرتنا باتباعهم. أين أمرتكم باتباعهم؟ قالوا: في قول الله -عز وجل: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ [التوبة: 100]. المهاجرين مَن هم؟ المهاجرون هم مَن هاجر من مكة من المؤمنين من قريش ونحوهم، ﴿المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾، الأنصار هم أهل المدينة.

قال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: 100]، أثنى على جميع مَن اتبع السابقين الأولين.

قالوا: ولأن الصحابة قد خالطوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وعرفوا شأنه وعرفوا طريقته، ولذلك فإنه يُحتجُّ باتباعهم ويُشرع الاتباع لهم.

والقول الصواب في هذا: أن قول الصحابي حجة وأن يجوز العمل به.

إلا إن هنا مسألة وهي: إذا وردنا دليل عام من الكتاب والسنة، ووردنا حديث خاص، فلا نُلغي دلالة العام من أجل فعل أو قول الصحابي، وإنما نقول: قول الصحابي خاص بمحله، وما عداه من الأفراد نعمل فيه بالدليل العام.

مثال ذلك: جاءنا في الأحاديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم؛ فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب». فأفتى بعض الصحابة بأن المراد بالكلب: الكلب الأسود فقط.

فنقول حينئذٍ: الحديث عام «إذا ولغ الكلب»، قد أخذنا ألفاظ العموم، وهذا من ألفاظ العموم، حتى تعرفون أن البحث في ألفاظ العموم مفيد، يُفهِّمك أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم»، «الكلب» هل هو خاص بالأسود؟ الحديث عام لم يُفرِّق بين أبيض وأسود، ومن ثمَّ نقول بأن الحديث عام.

أفتى بعض الصحابة بأن الحديث في الكلب الأسود، فنقول: الدليل والحديث النبوي نبقيه على عمومه، ولا يصح لنا تغيير معنى نصوص الواقفين.

ذكر المؤلف بعد ذلك الأخبار.

تقدَّم معنا -لو تذكرون- في أوائل علم الأصول أن الكلام ينقسم إلى: إنشاء وخبر.

الإنشاء هو الذي لا يقبل التصديق والتكذيب، "اسكت" هذا خبر أو إنشاء؟ إنشاء، لأنه لا يصح أن تقول لي: كذبتَ أو صدقتَ، وإنما تمتثل، فهذا إنشاء لا يدخل معنا في الخبر.

وذكرنا أن الأخبار ما تقبل التصديق والتكذيب، يكون في الجمل الاسمية أم في الجمل الفعلية؟ غلظ! يكون فيهما معًا.

مثال ذلك: تقول: "محمد واقف"، هذه جملة اسمية، خبر.

وتقول: "محمد وقف"، و "وقف محمد"، يصح أن تصدق وتكذب؟ نعم، بالتالي هذا يكون من قبيل الأخبار.

ولذلك عرَّف المؤلف الخبر بأنه: (ما يدخله الصدق والكذب)، ينبغي أن نزيد فيه: (لذاته)، لماذا؟ للاحتراز من خبر الله وخبر رسوله، خبر الصادقين؛ لأن خبر أولئك صدق جزمًا، ونجزم بهذا، ولكن مرادهم هنا خبر الآدميين.

قال: (فالخبر) ما يعني الكلام الذي يدخله التصديق والتكذيب.

وقسَّم المؤلف الأخبار إلى قسمين:

- أخبار متواترة: وهي التي نقلت من جماعة كثيرة عن جماعة كثيرة حتى يبلغوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، بشرط أن نأمن من تواطئهم واتفاقهم على الكذب، فهذا متواتر أو آحاد؟ متواتر.

طيب.. يُشترط فيه: أن يرويه جماعة.

ويشترط فيه: أن ينتهي الخبر إلى شيء محسوس.

ويشترط فيه أن يكون هذه الطبقات الكثيرة في جميع طبقات الإسناد.

إذن: هذا هو ماذا؟ المتواتر.

المتواتر قد نُمثل له بآيات القرآن هذه متواترة، قد نمثل له بأحاديث قليلة مثل حديث: «من كذب عليَّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار»، هذا الحديث متواتر، نقله الجماعات ثم الجماعات، ومن ثمَّ دخل حيِّز المتواتر.

وقد يكون التواتر في غير الأخبار النبوية. مثال ذلك.. نعم، ارفع الصوت.

{حادثة الإسراء والمعراج}.

الشيخ:

هذا حديث نبوي، ما يدخل معنا، نحن نريد تواتر في غير الأخبار النبوية، هل في بلد اسمها الصين؟ هل هناك بلد اسمها اليابان؟ زرتموها؟ إذن ما أحسستم بها، من أين جزمتم أنه يوجد بلد اسمها اليابان؟ بالتواتر، نقل جماعات عن جماعات، من زارها ومن رآها، هذا يسمى متواتر.

لكن جزيرة موريشس، مَن زراها منكم؟ ما زارها أحد، سمعتم بخبرها؟ إذن بعضكم سمع وبعضكم..

كم عدد الأشخاص الذين أخبروك بها؟ واحد، اثنان، هذا ماذا يسمى؟ آحاد.

المتواتر تستفيد منه الجزم والقطع، ولذلك لو جاءك واحد وقال: ما في بلد اسمها اليابان؛ كذَّبته؛ لأنه قد وصل إليك بخبر متواتر، بينما لو جاءك مُكذِّب يُكذِّب وجود هذه الجزيرة الأخرى، قلت: والله يمكن؛ لأنه ما وصل إليه بطريق التواتر، وإنما وصل إليه بطريق الآحاد.

إذن: ما هي شروط كون الخبر متواترا؟

ثلاثة شروط:

1- أن يرويه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب في العادة.

2- أن تكون الكثرة في جميع طبقات الإسناد.

3- أن يستندوا إلى محسوس من مشاهدة أو سماع، أما لو كان على اجتهادات وظنون؛ فحينئذٍ لا يكون متواترًا.

طيب.. مثلنا بالمتواتر في الأخبار العامة بماذا؟ بالدول التي لم نسمع عنها إلا بطريق التواتر، -لازم تأتي بالميكرفون عند فمك إن أردت أن تتحدث حتى الإخوان يستفيدون.

طيب.. الآحاد يرويه واحد أو جماعة، لكن يمكن أن يتواطؤوا على الكذب، مَن يُمثِّل لذلك الآحاد؟

في الحديث النبوي هناك أخبار كثيرة، نعم.

{حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-}.

الشيخ:

حديث عمر بن الخطاب.

{«إنما الأعمال بالنيات»}.

الشيخ:

«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، هذا الحديث ما رواه إلا صحابي واحد هو عمر بن الخطاب، فيكون هذا خبر آحاد، ولم يروه عن عمر إلا واحد هو علقمة بن وقاص، ولم يروه عن علقمة بن وقاص إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن محمد إلا يحيى بن سعيد، ثم رواه قرابة المائتين أو أكثر عن يحيى بن سعيد، هذا متواتر أو آحاد؟

في الطبقات الأولى من الإسناد: هذا آحاد.

في الطبقة الأخيرة: تواتر، عن سعيد متواتر.

طيب.. المتواتر لا يوجد له حد فاصل، وإنما العبرة بحصول القناعة بخبره.

والمؤلف يقول بأن الآحاد يجب العلم بها، لكننا لا نبني عليها عقائد، ولا يصح أن نبني عليها العقيدة، وعندنا مسألتان:

المسألة الأولى: هل خبر الواحد يفيد العلم واليقين أو لا يفيد؟ هذا من مواطن الخلاف بين الفقهاء.

- فجماعة قالوا: خبر الواحد لا يفيد العلم، يعني إذا أخبرك واحد يمكن أن تتشكك في كلامه، ومن ثمَّ لا تأخذ كلامه بالقبول، فدل هذا على أن خبر الآحاد لا يوجب العلم.

- وهناك قول آخر بأن أخبار الآحاد متى احتفَّت بها قرائن، فإنه يُفيد العلم.

مثال القرائن: كونه مروي في الصحيحين.

مثال القرائن: قد رواه الأئمة -أئمة أهل الحديث.

هذه قرائن تحتف بالخبر وتنقله إلى أن يكون مفيدًا للقطع.

ثم بعد ذلك قسَّم المؤلف أخبار الآحاد إلى قسمين:

- مرسل.

- ومسند.

ما هو القسم الأول: مرسل.

والثاني: مسند.

ما هو المسند؟ هو الذي اتصل إسناده، ولا يوجد فيه انقطاع، ولا يوجد فيه كذلك تدليس.

بينما القسم الثاني: المرسل، وهو الذي لم يتصل إسناده، يعني طاح أحد أفراد الإسناد.

مثال ذلك: قد يأتي محمد بن إبراهيم فيروي عن عمر مباشرة، نجد مثلًا الزهري في مرات يروي عن ابن عمر، وهذا منقطع، هذا مرسل.

المرسل عند الأصوليين يشمل المرسل عند المحدثين والمنقطع والمعضل والمعلق، كل هذه يسمونها ماذا؟ مرسل.

إذن: لفظة "المرسل" هو الذي سقط بعض رواته، من أول الإسناد أو من آخره أو من أي درجة.

هذه المراسيل على نوعين:

النوع الأول: مراسيل الصحابة، ومراسيل الصحابة حجة، لأن الصحابي لا يمكن يُسقط إلا صحابيًّا آخر، فحينئذٍ قالوا بأن مراسيل غير الصحابة حجة ومقبولة.

إذن: عندنا المرسل ينقسم إلى قسمين:

- مراسيل الصحابة، فهي حجة، لماذا؟ لأن الصحابي لا يسقط إلا صحابيًّا آخر.

- النوع الثاني: مراسيل غير الصحابة، كما لو قال الزهري: "قال رسول الله"، قال الشعبي: "قال رسول الله"، هذا من ماذا؟ مراسيل غير الصحابة.

مراسيل غير الصحابة ما حكمها؟

أول شيء نحرر محل النزاع، فنقول: اتفقوا على عدم حجية المراسيل إذا كان المرسل يسقط الرواة الضعفاء، رجل يروي الحديث بإسناد فيه رجل ضعيف، ثم يسقط الرجل الضعيف من أجل أن يُدلِّس على الناس، فحينئذٍ نقول هذا ماذا؟ لا يقبل منه إرساله بالاتفاق.

الثاني: مَنْ كان لا يُسقِط إلا الثقات، فهو يقول: أنا أُسقِط الثقة من أجل أن أُريحَكَ، ترتاح ما تبحث في أسانيدهم.

ومراسيل غير الصحابة إذا كانت من مُرسِل لا يسقط إلا الثقات فقد اختلف العلماء فيه على أقوال:

- منهم من قال: قول الصحابي ليس بحجة، وعليه أكثر المحدثين. لماذا؟ قالوا: لأنه قد سقط بعض الرواة، ويمكن أن يكون الراوي الساقط ماذا؟ ضعيفًا، فكيف نعتمد على قوله؟

إذن القول الأول بأن مراسيل الصحابة..

إذن: القسم الأول مَنْ يُسقط الضعفاء هذا ليس عندنا فيه إشكال، مثل الزهري، الزهري إمام لمكانته ومنزلته، حفظ السنة عشرات السنين، لكن إذا أسقط شيخه فلا يُلتفت إلى هذه الرواية التي أسقط فيها شيخه. لماذا؟ لأنه يسقط الضعفاء، يُسقط ماذا؟ الضعفاء، ومن ثمَّ لم يُعتمد على مراسيله.

أما مَن كان لا يسقط إلا الثقات فهل يُقبل إرساله أو لا يُقبل؟

قال الشافعية: لا يُقبل إلا مراسيل سعيد بن المسيب. لماذا؟ قالوا: لأنا فتشناها فوجدناها قد صحَّت مسندة من طريق آخر.

وقول الجمهور بأنه يُحتج بمراسيل غير الصحابة، وهذا عليه الجماهير، يقولون: لأنه لم يُسقط الراوي شيخه إلا لأنه يعلم أنه ثقة، فأراد أن يخفف عن الناس مئونة البحث في مثل هذه المسائل.

إذن: هناك مَنْ يقول: المرسل إذا كان معه قرينة قُبِل.

- وهناك من يقول: يُقبَل المرسل مطلقًا.

- وهناك من يرده.

ننتقل إلى مسألة أخرى، قال المؤلف: (والعنعنة تدخل على الأسانيد)، ما معنى الإسناد؟ الإسناد، ما معنى الإسناد؟

{الاتصال}.

الشيخ:

لا، الرواة، سلسلة الرواة الذين يروون الخبر، والإسناد قد يكون متصلًا وقد يكون منقطعًا.

قال: (والعنعنة)، ما المراد بالعنعنة؟

لا، الصيغة التي لا تُشعر باللقيا.

مثال ذلك: لو قلت: "عن زيد عن علي"، هذا فيه صيغتان: "عن زيد عن علي"، فيحتمل وجود الانقطاع.

ومثل ما لو قال الراوي: "رأيت فلانًا يفعل كذا" انقطاع أم ليس بانقطاع؟ نقول: لا، هذا ليس من العنعنة، إنما العنعنة إذا قال الراوي: "قال زيد: قال رسول الله"، هذه عنعنة. لماذا؟ لأنه يحتمل عدم اللقيا.

مثله لو قال: "إن رسول الله قال كذا" هذه من صيغ العنعنة.

ما حكم العنعنة، هل هي مقبولة؟

نقول: إن كان المُعنعِن مُدلِّسًا لم تُقبَل روايته، وإن كان المُعنعِن له مكانته ومنزلته، وكان لا يُدلِّس، لا يُسقط الرواة الضعفاء، ما الحكم؟ تقول: روايته من قبيل المتصل.

طيب.. رواية الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- على مراتب:

- أعلاها: إذا قال الصحابي: "سمعتُ رسول الله" مباشرة، جاء بلفظه.

النوع الثاني: إذا قال الراوي: "أمرنا رسول الله، ونهانا رسول الله"، آسف..

المرتبة الأولى: إذا قال الصحابي: "سمعت رسول الله".

المرتبة الثانية: إذا قال الصحابي: "عن رسول الله أنه قال كذا"، هذه لا تحتمل التفسير الصحابي، لكن يحتمل الانقطاع، وهذا أيضًا مقبولًا، لأن الصحابة والتابعين عدول لا يُسقطون راويًا إلا إذا بيَّنوا حقيقة الحال.

النوع الثالث: إذا كان فيه مجال للفهم، مثل قوله: "أمرنا رسول الله، نهانا رسول الله، قضى رسول الله"، ما الحكم؟ هذا النوع الثالث له حكم الرفع أيضًا، ولا نقول هو منقطع.

النوع الرابع: إذا قال الصحابي: "أُمرنا بكذا، ونُهينا عن كذا، وقُضيَ بكذا"، والجمهور أيضًا يقولون: هذا مقبول.

والنوع الأخير: ما لو قال الراوي: "كانوا يفعلون" يحتمل أن يكون الفعل كان في عهد النبوة، ويحتمل أن يكون الفعل بعد عهد النبوة، وبالتالي توقَّف فيه بعضهم.

والصواب: أنه أيضًا حجة، ومن أمثلته: قول: "كنا نعزل والقرآن ينزل".

هذه مراتب رواية الصحابي.

يبقى عندنا مراتب رواية غير الصحابي.

{شيخ، أحسن الله إليك، هل قول "رأينا" بمنزلة "سمعنا"}.

الشيخ:

نعم، "رأينا" هل هو بمنزلة "سمعنا"؟ رأيت رسول الله أو سمعت رسول الله، هذا من الرتبة الأولى، قد يكون فيها تفاوت قليل لكن كلها من الرتبة الأولى.

ننتقل إلى مراتب رواية غير الصحابي، ماذا؟ غير الصحابي.

هناك مرات يكون الشيخ هو الذي يقرأ والتلميذ يسمع، هذا أعلى المراتب، يُقال عنه: رواية الشيخ، ويسمونها أيضًا: قراءة الشيخ.

ماذا يقول في هذه الرتبة؟ يقول: حدثني. أو يقول: أخبرني.

النوع الثاني: أن يسكت الشيخ والتلميذ يقرأ من كتاب الشيخ، فيُقر الشيخ الرواية، فهذه تسمى العرض، التلميذ هو الذي يعرض على أستاذه.

هذه الرتبة لا يقول فيها "أخبرني" مجردًا، إنما يقول: "أخبرني عرضًا"، أو "حدَّثني قراءة عليه".

الرتبة الثالثة: أن يأذن الشيخ للتلميذ بالرواية بدون أن يقرأ الشيخ ولا يقرأ التلميذ، فيسمونه "الإجازة"، ما اسمه؟ الإجازة.

ويشترط فيها الثقة بين كلٍ من المُجاز والمُجاز.

إذا أجاز الشيخ لتلميذه من غير قراءة، فإن التلميذ يقول: أجازني أو أخبرني إجازة.

هناك رتبة أخرى يسمونها: الوجادة، ما اسمها؟ الوجادة، يعني يجد التلميذ بخط شيخه كتابةً يعرفها، ويعرف أن الميت قد كتبها، فهذا وِجادة، إن أشهد عليها صحَّ العمل بها.

وهذا البحث يدلك على دقة الأصوليين، مرة يقول: أجازني. ومرة يقول: أخبرني إجازة. ومرة يقول: أخبرني -مطلقة-، مرة يقولون بغير ذلك.

فيه إشكال أو سؤال؟ طيب.

الوجادة -بالواو- الوجادة: أجد أحاديث قد رواها شيخي مكتوبة فآخذها، أنا أعرف أن هذا خط شيخي، عندي مائة بالمائة أن هذه أحديث شيخي، فحينئذٍ نقول: أخذنا هذه الأحاديث من هذه الورقة، وبدأنا نرويها، ماذا نقول؟ نقول: وجدت في خط شيخي كذا وكذا.

القبول وعدم القبول هذه مسألة أخرى، جمهور أهل العلم لا يرون أن الوجادة طريق صحيح للرواية.

هناك أخبار ومباحث متعلقة بالسنة النبوية، منها:

- أن السنة حُجَّة شرعية سواء كانت متواترة أو كانت آحادًا.

- وأنه إذا خالفت السنة الآحادية فعل عدد من الصحابة، فحينئذٍ إذا خالفت ماذا؟ من المباحث التي تُبحث في مباحث السنة إذا كان هناك قياس يُخالف خبر الآحاد. جمهور أهل العلم قالوا: الخبر كلام المعصوم -صلى الله عليه وسلم- فنقدمه على الأقيسة خلافًا لبعضهم.

هكذا أيضًا تقبل أخبار الآحاد في الحدود، تُقبل في إثبات الشبهة، ونحو ذلك. وذلك لأن الأدلة الدالة على حجية خبر الواحد عامة.

من المسائل المتعلقة بهذا: حجية خبر الواحد، هل خبر الواحد يُحتجُّ به أو لا؟ وجماهير أهل العلم يقولون: خبر الواحد يُحتجُّ به؛ بل قد حُكيَ إجماع الصحابة على أن خبر الواحد يُحتج به.

وذكروا وقائع قد احتجَّ فيها الصحابة بأخبار الآحاد، وخطأوا مخالفهم بناءً عليها.

من مباحث السنة النبوية: ما يتعلق بوجوب العمل بالسنة النبوية في جميع ما وردت فيه، ليس هناك أبواب لا يصح العمل فيها بخبر الآحاد.

بعضهم يقول: باب الحدود هذا لا نعمل فيه بخبر الآحاد، والأدلة الدالة على حجية خبر الواحد، ما هي الأدلة الدالة على حجية خبر الواحد؟ كثيرة، منها:

- قول الله -عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6]، فدلَّ هذا على أن نبأ العدل الثقة يُقبَل ولا يُتوقَّف فيه.

- ويدل على ذلك: ما تواتر على النبي -صلى الله عليه وسلم- من كونه يرسل آحاد الصحابة إلى مشارق الأرض ومغاربها يدعونهم إلى الله، ويعرفونهم بالأحكام الشرعية، ويأخذون منهم الزكاة والواجبات، وهم آحاد. فدلَّ هذا على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحتج بخبر الواحد.

- ويدل على هذا: إجماع الأمة على العمل بخبر الواحد من عهد الصحابة، فقد أجمع الصحابة على العمل بخبر الواحد في وقائع كثيرة متعددة.

- وكذلك جاءت نصوص في الكتاب والسنة تدل على حجية خبر الواحد.

كان عندي مسألة متعلقة بالإجماع نسيتها، نعرضها في آخر لقاءنا في هذا اليوم، وهي: مسألة إحداث قول جديد، ذكرناها أو ما ذكرناها؟

إذا كان عند الصحابة قولان في مسألة خلافية أو مَنْ بعدهم من أهل العصور، هل يجوز لمن بعدهم أن يأتي بقول ثالث، إحداث قول جديد أولا؟ واضحة المسألة؟

جمهور أهل العلم يقولون: لا يجوز إحداث قول ثالث. لماذا؟ قالوا: لن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق»، فإذا قلت: بأن القولين خطأ؛ فحينئذٍ لم يقل بالحق أحد في الزمان الأول، وبالتالي لا يجوز لنا أن نُحدِث قول جديد لم يقل به أحد من أهل العصر الأول.

وبهذا نتوقَّف عند مباحث القياس، لعلنا -إن شاء الله تعالى- نأخذها في اللقاء القادم.

أسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوفقكم للخير، وأن يسبغ عليكم نعمه، كما اسأل الله -جلَّ وعلا- لكم أيها المشاهدون التوفيق لخيري الدنيا والآخرة، اللهم يا حي يا قيوم، وفقهم لطاعتك، وأعنهم على عبادتك، اللهم يا حي يا قيوم أصلح أحوال الأمة، وردهم إلى دينك ردًّا جميلًا، اللهم مَن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره برحمتك يا أرحم الراحمين.

كما اسأل الله -جلَّ وعلا- أن يحقن دماء المسلمين، وأن يؤمنهم على أعراضهم وأموالهم ودمائهم، وسائر أحوالهم.

هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

http://islamacademy.net/cats3.php