الحقوق محفوظة لأصحابها

سعد الشثري
مادة متن الورقات

لفضيلة الدكتور/سعد الشثري

الدرس (6)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

أما بعد:

فمرحبًا وأهلًا وسهلًا بكم في لقائنا السادس من لقاءات شرح كتاب الورقات، نتدارس فيه كيف نفهم الكتاب والسنة، نتدارس فيه كيف نعرف ما يصلح أن يكون دليلًا مما لا يصلح أن يكون من الأدلة الشرعية.

أخذنا في لقائنا السابق ما يتعلق بالنسخ وهو: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بواسطة خطاب متراخٍ عنه.

وفي هذا اليوم بإذن الله -عز وجل- نتدارس مبحث التعارض بين الأدلة.

ما المراد بالتعارض؟

المراد بالتعارض: التقابل، بحيث يدل أحد الدليلين على حكم، ويدل الدليل الآخر على حكم مضادٍ له.

مثال ذلك: لو جاءنا دليلان: أحدهما يدل على إباحة فعل، والآخر يدل على تحريمه، فحينئذٍ هذا يسمى التعارض.

ويُلاحظ أن الشريعة لا يوجد فيها تعارض حقيقي، فالكتاب والسنة لا يمكن أن تتعارض فيها الأدلة مهما كانت الأمور.

ودليل ذلك: قوله -جل وعلا: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، لكن هناك بعض المواطن يظن بعض الفقهاء في أذهانهم أن هناك تعارضًا بين الأدلة، ولا يتمكنون من معرفة المراد بكل واحد من الدليلين، وبالتالي يظنون وجود تعارض بين هذه الأدلة.

ما هي شروط التعارض؟

متى يكون الدليلان متعارضين؟

هناك شروط:

الشرط الأول: أن يتقابلا في الحكم، أما إذا كان الدليلان يدلان على الإباحة فلا تعارض، لا بد من التقابل، أحدهما يدل على إثبات، والآخر يدل على نفي.

أما إذا كانا يدلان على حكم واحد فهنا لا يوجد تعارض.

الشرط الثاني: صحة الدليلين، فلو كان أحد الدليلين ضعيفًا فإنه لا يُعدُّ هذا من التعارض.

مثال ذلك: إذا كان عندنا دليل صحيح يدل على الإباحة، وعندنا دليل ضعيف يدل على التحريم، هل هنا تعارض؟ نقول: لا يوجد تعارض، لأن الضعيف لا يصح أن يُستدل به، ولا يصح أن يُقابَل به الدليل الصحيح.

الشرط الثالث: أن يتوارد الدليلان على محل واحد في زمن واحد.

لو قال قائل: الشريعة تقول بأن المرأة الطاهرة تصوم، وأن المرأة الحائض لا تصوم، فهذا تناقض وتعارض!

تقولون له: لا يوجد تعارض. لماذا؟ لأن الدليلين لم يتواردا على محل واحد أو زمان واحد.

جاءت الشريعة بأن المقيم يجب عليه الصوم لرمضان، وجاءت الشريعة أيضًا بأن المسافر يجوز له الفطر، الأول يوجب الصيام، والثاني يجيز الفطر. فحينئذٍ هل هنا تعارض؟ نقول: لا يوجد تعارض. لماذا؟ لأنهما لم يتواردا على محلٍّ واحدٍ.

إذا ورد دليلان في محل واحد، فحينئذٍ ماذا نفعل؟

نمثِّل لذلك بمثال: جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «غطِّ فخذك؛ فإن الفخذ عورة»، وجاء في الحديث الآخر: «أن ثوب النبي -صلى الله عليه وسلم- ارتفع، قال: فمسستُ فخذه»، فحينئذٍ هنا تعارض، فكيف نجمع بين هذين الدليلين المتعارضين؟

مثال آخر: جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا صلاة بعد العصر»، وجاء في الحديث الآخر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلِّها إذا ذكرها»، فحينئذٍ لو قُدِّر أنه لم يذكر الصلاة التي فاتته، إلا بعد العصر فهناك عرَضَ فيه دليلان.

إذن: عرفنا التعارض، ومثَّلنا له، وتبيَّن له شروط التعارض، ومتى يكون تعارضًا في ذهن المجتهد.

ماذا نفعل عند وجود التعارض؟

وكيف نقوم بالتعامل مع هذا التعارض؟

التعارض له أربع طرائق للتعامل مع بالترتيب، كم طريقة؟ أربع.

الطريقة الأولى: أن نحاول الجمع بين الدليلين، بأن نحمل أحد الدليلين على محل، ونحمل الدليل الآخر على محلٍ آخر.

مثال ذلك: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا تستقبلوا الكعبة ببول أو غائط، ولا تستدبروها»، ثم جاءنا في الحديث الآخر حديث ابن عمر قال: «رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يبول مستقبلَ بيت المقدس مستدبر الكعبة»، فهنا دليلان متعارضان، الأول يدل على المنع، والثاني يدل على الجواز.

نظرنا، قلنا: وجدنا في حديث ابن عمر، قال: «رقيت بيت حفصة فوجدت»، فدلَّ هذا على أنَّ فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في البُنيان، ولذلك قد نحمل دليل الجواز على مسألة حال البنيان، ونحمل دليل المنع على ما عدا ذلك.

مثال آخر: قال الله -عز وجل: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، ثم قال الله -عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49]، فحينئذٍ نقول: الآية الأخيرة هذه في المطلقة التي لم يُدخل بها، بينما الآية الأخرى في المطلقة المدخول بها، فهنا وُجد التعارض، فحملنا أحد الدليلين على محل، وحملنا الدليل الآخر على محل آخر. هذا ماذا نسميه؟ الجمع بين الدليلين.

قد نحمل أحد الدليلين على محل، ونحمل الدليل الآخر على محل، وقد نحمله على زمان دون زمان، وقد نحمله على وصف دون وصف، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث.

ومن أمثلته مثلًا: جاء في الحديث: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يمسك الرجلُ ذكرَه بيمينه»، وفي الحديث الآخر: «نهى أن يمسك الرجلُ ذكرَه بيمينه وهو يبول»، فبالتالي نُقيِّد الحديث الأول بالقيد المذكور في الحديث الثاني.

وبهذا نعلم أن تخصيص العموم من الجمع بين الدليلين، وأن تقييد المطلق -الذي مرَّ معنا- من الجمع بين الدليلين، وإذا لم يُمكن الجمع فماذا نفعل؟

إذا لم يمكن الجمع فإننا ننظر في التاريخ، فنجعل المتقدم في التاريخ منسوخًا، والمتأخر ناسخًا، وقد ورد: "كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ". فدلَّ هذا على أنهم يأخذون بالمتأخر إذا لم يمكن الجمع.

مثال ذلك: جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من مسَّ ذكره فليتوضأ»، وهذا الحديث رواه أبو هريرة، وروته بسرة بنت صفوان، وهما ممن تأخر إسلامهم قرابة السنة السابعة.

وجاء في حديث طلق بن علي: أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: مسستُ ذكري في الصلاة، فقال: «إن هو إلا بضعة منك»، هل حكم بانتقاض الوضوء؟ لم يحكم بانتقاض الوضوء في هذا الحديث.

فحينئذٍ قال طائفة بأن حديث طلق كان بعد الهجرة، لأنه وصف قال: "قدمت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم يبنون المسجد". فأخذنا بالمتأخر وهو الذي روته بسرة ورواه أبو هريرة، فقلنا: بأن الوضوء ينتقد بمسِّ الذكر كما هو مذهب مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وطوائفَ من أهل العلم، فأخذنا بالمتأخر في هذا المثال.

بعض أهل العلم قال بأن حديث طلق هو في مس الذكر من وراء الثياب، يعني يسأل عن مس الذكر وهو يصلي، ويَبعُد أن يكون مصليًا كاشفًا لعورته.

وبعضهم قال: إنه في الحديث قال: «إن هو إلا بضعة منك»، فلم يفرق بين ما كان من وراء الثياب وما كان من فوقها، وعلى كلٍ عرفنا الطريقة السليمة.

نأتي بمثال آخر يوضح الاختلاف في التعامل بين دليلين متعارضين.

جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ذاهب من المدينة إلى مكة، قال: «من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين»، هذا قال أين؟ في الطريق قبل أن يصل إلى مكة، فلما جاء في مكة قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «من لم يجد النعلين فليلبس الخفين»، ولم يذكر القطع.

فاختلف الفقهاء في التعامل مع هذين الدليلين، فقال طائفة بأن حديث ابن عباس الذي لم يذكر فيه القطع متأخر، وبالتالي يكون ناسخًا للحديث المتقدم، فعملوا بالدرجة الثانية.

بينما قال آخرون بأن حديث ابن عباس مطلق، وحديث ابن عمر مقيَّد، وإذا أمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين؛ فحينئذٍ نقدم طريقة الجمع على طريقة الحكم بنسخ المتأخر للمتقدم.

نأتي بمثال آخر: وهو أنه قد ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءه رجل وعليه الطيب، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عما يفعله في عمرته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اغسل عنك أثر الخلوق»، أمره بإبعاد أثر الطيب.

وجاء في حديث عائشة أنها «طيَّبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإحرامه قبل أن يُحرم، وكان وبيص الطيب على مفرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-». فهنا دليلان متعارضان:

الأول: يدل على إيجاب غسل المحرم للطيب.

والثاني: يدل على جواز بقاء الطيب على المحرم.

فماذا نفعل؟

قال طائفة بأن الحديث الآخر هذا متأخر لأنه كان حديث متقدم، فنظروا إلى التاريخ.

والصواب: الجمع، بأن نقول: حديث عائشة في الطيب على البدن، وحديث يعلى بن أمية الذي قال فيه «اغسل عنك أثر الخلوق» هذا في الطيب على الثياب، وبذلك نجمع بين هذين الدليلين.

ومن هنا نقرر بأنه لا يُصار إلى النسخ بدون دليل إلا عند عدم إمكانية الجمع، أما إذا أمكن الجمع فإننا لا ننظر إلى التاريخ.

إذا لم نتمكن من الجمع ولم نتمكن من معرفة التاريخ؛ فحينئذٍ ننظر إلى الراجح من المرجوح فنقدم الراجح، وهناك قواعد كثيرة لمعرفة ما هو الراجح من المرجوح.

مثال ذلك: لو كان أحد الخبرين المتعارضين قد رواه جماعة من الصحابة، مثل حديث «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه إلى منكبيه عند تكبيرة الإحرام وعند ركوعه وعند الرفع منه»، وجاءنا في الحديث الآخر حديث ابن مسعود «كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام ثم لا يعود».

الحديث الأول رواه صحابة كُثُر، والثاني لم يروه إلا صحابي واحد؛ فبالتالي نقول: بأنه يُقدَّم ويُرجَّح الذي رواه الجماعة.

إذا لم يمكن معرفة الراجح من المرجوح فماذا نفعل؟

نقول: يجب على -هذه الرتبة الرابعة- يجب على المفتي أن يتوقف، بحيث لا يفتي ولا يقضي في هذه المسألة، لماذا؟ لأنه لم يظهر له الراجح من المرجوح في الدليلين المتعارضين.

وأما بالنسبة للعمل في نفسه فله أحد طريقين:

- إما أن يُقلِّد عالمًا آخر، لأنه لم يتمكن من الوصول للراجح في هذه المسألة.

- وإما أن يحتاط في المسألة بحيث يخرج من الأقوال بيقين.

نأتي إلى شرح كلام المؤلف.

يقول المؤلف: (إذا تعارض نطقان) أي دليلان من أدلة النطق يقابل الأدلة القياسية، (فلا يخلو إما أن يكون الدليلان المتعارضان عامين أو خاصين أو يكون أحدهما عامًّا والآخر خاصًّا، أو كل واحد منهما عامًّا من وجه وخاصًّا من وجه).

نمثل لذلك بأمثلة:

إذا تعارض دليلان عامان، مثال ذلك: مثلًا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «فيما سقتِ السماء العُشر» هذا يشمل القليل والكثير.

وجاء في الحديث الآخر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقة»، معناه: أن الزكاة لا تجب في القليل، وتجب في الكثير. هنا دليلان عامَّان؛ لأن "ما" من أدوات العموم. ماذا نعمل؟

إن أمكن الجمع بين الدليلين فحينئذٍ نعمل بالجمع. فأحدهما عام والآخر خاص، فنقول: الزكاة لا تجب إلا فيما كان أكثر من خمسة أو سبع، إذا لم يمكن الجمع نظرنا إلى التاريخ، إذا لم نعرف التاريخ فإننا نرجح بين هذه الأدلة.

هكذا أيضًا إذا كانا خاصين، فإننا ننظر إلى إمكانية الجمع، فإذا لم يُمكن بحمل أحد الدليلين على محل، وحمل الآخر على محل آخر، فإذا لم يُمكن الجمع نظرنا إلى التاريخ فعملنا بالمتأخرِ، وجعلناه ناسخًا للمتقدم.

إذا لم نعلم التاريخ؛ فإننا حينئذٍ نرجح بين هذه الأدلة، فنأخذ بالدليل الأقوى.

لو قُدِّرَ أن أحد الدليلين عام، وأن الآخر خاص فحينئذ نعمل بطريقة الجمع ولا إشكال فيها، أما إذا كان أحد الدليلين عامًّا من وجه وخاصًّا من وجهٍ آخر.

مثال ذلك: يقول الله -عز وجل:﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، هذا يشمل الصغيرة والكبيرة ويشمل الحامل، ثم جاءنا في الآية الأخرى ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4]، هناك ضعها كدائرتين متقاطعتين.

الأول: المطلقة غير الحامل، عدتها ثلاثة قروء.

الثاني: الحامل التي تحتاج إلى عدَّة وليست مطلقة، كالمتوفى عنها، فعدتها ماذا؟ وضع الحمل، ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾.

يبقى هناك شيء مشترك وهو: المطلقة الحامل، هل تأخذ بالدليل الأول، أو تأخذ بالدليل الآخر؟ ننظر في هذين الدليلين العامين، فنأخذ بأقوى العمومين الذي لم يرد عليه مخصصات كثيرة.

قوله: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ لم يردْ عليه مخصصات، بخلاف ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ﴾، فإنه قد ورد فيه أن المطلقة التي لم يُدخل بها لا عِّدة عليها. إذن هذا تخصيص.

وورد عليه أن المرأة الكبيرة الآيسة والمرأة الصغيرة التي لم تحض بعد فإنها لا تدخل في الآية، وإنما عدتها ثلاثة أشهر.

إذن: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ ورد عليها مخصصات كثيرة، بالتالي عمومها أضعف من عموم قوله -عز وجل: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾.

ومن ثَمَّ نقول بتقديم العموم الذي لم يرد عليه إلا مخصصات قليلة في موطن التعارض بين الدليلين.

نمثل بمثال آخر لعله يتضح الحال، جئنا بمثال قبل قليل وهو قوله النبي -صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها»، هذا يشمل الصلوات المقضية فقط، ولا يشمل صلوات النوافل، فهو خاص من جهة نوع الصلاة، يختص بالصلاة المقضية، لكنه في الوقت عام يشمل الصباح والمساء، بعد العصر، بعد المغرب، جميع الأوقات، فهو خاص في نوع الصلاة لكنه عام في الوقت.

بينما في الحديث الآخر: «لا صلاة بعد العصر»، هذا عام في الصلوات، «صلاة» هنا نكرة في سياق النفي فتكون مفيدة للعموم، فهو خاص في الوقت بعد العصر، لكنه عام في الصلوات.

الحديث الأول لم يرد عليه مخصصات، بينما الحديث الثاني ورد فيه مخصصات.

مثال المخصصات: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن مسجد الكعبة: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت أو صلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار».

وورد في الحديث الآخر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتته سنة الظهر، فصلاها بعد العصر.

إن هذا العموم «لا صلاة بعد العصر» وردت عليه مخصصات كثيرة، وبالتالي عندنا دائرتان متداخلتان:

الأولى: «لا صلاة بعد العصر».

والثانية: «من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها».

يتداخلان في أي شيء؟ في الصلاة المقيمة بعد العصر، ماذا نفعل بها؟

العموم الأول: «من نام عن صلاة أو نسيها» مخصصاته قليلة.

- بينما «لا صلاة بعد العصر» مخصصاته كثيرة. وبالتالي نقدم عموم «من نام عن صلاة أو نسيها»، "مَنْ" من أدوات العموم، «من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك».

الجويني يقول: (هذا واضحًا).

لعلنا نذكر عددًا من القواعد التي نرجح فيها بين الأدلة المتعارضة.

متى يكون الترجيح؟ عند عدم إمكانية الجمع، وعدم معرفة التاريخ.

هناك قواعد كثيرة للترجح بين الأدلة المتعارضة.

ذكرنا من أمثلتها:

- قوة العموم، العام الأقوى يُقدَّم على العام الأضعف، والتضعيف هنا بكثرة المخصصات.

- أيضًا تقدَّم معنا: الترجيح بِحَسَبِ الإسناد وكثرة الرواة، ولذلك قدمنا رواية رفع اليدين عند الركوع على غيرها.

- أيضًا من الأمثلة التي فيها التعارض: لو تعارض دليل من الكتاب ودليل من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم نتمكن من الجمع بينهما؛ فحينئذٍ نقدم الآية على الحديث.

مثال ذلك: جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن البحر: «هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته»، فكل ما مات في البحر فإنه حلال بظاهر هذا الحديث.

ثم جاءتنا آية في كتاب الله، يقول الله -عز وجل: ﴿قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾ [الأنعام: 145]، فلو قُدِّر أن هناك حيوان يُقال له خنزير البحر، هل يجوز الأكل منه أو لا يجوز؟

على الحديث: يجوز الأكل منه.

وعلى الآية: لا يجوز الأكل منه.

فأيهما نقدِّم؟ نقول في هذا المثال: نقدم الآية، فيُقدَّم كتاب الله على الحديث النبوي الوارد في هذا الباب.

- ومن أمثلة أيضًا الترجيحات: ما لو كان أحد الدليلين: فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، والدليل الآخر: قوله؛ فإننا نقدم القول على الفعل.

مثال ذلك: «غطِّ فخذك»، فهذا قول. «انحسر ثوبه عن فخذه»، هذا فعل، فأيهما يُقدَّم؟

نقول: نقدم القول. لماذا؟ لأنه لا يحتمل الخصوص، بينما الفعل يمكن أن يكون خاصًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم.

- ومن أمثلة ذلك: لو جاءنا في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما الماء من الماءِ» هذا في الاغتسال، يعني إنما يجب الاغتسال بالماء عند نزول المنيّ، ثم وردنا في حديث عائشة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا جلس على شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل وإن لم يُنزِل».

إذن: التعارض الآن في أي شيء: فيما إذا جامع ولم يُنزِل.

في الحديث الآخر: «إذا مسَّ الختانُ الختانَ؛ فقد وجب الغسل»، فهل بناءً على الحديث الأول نقول: «إنما الماء من الماء»، فنقول: لا يجب الغسل إذا جامعها ولم ينزل، أو نأخذ بالدليل الآخر؟

نقول: الدليل الآخر أقوى من جهة الدلالة؛ لأنه نصٌّ في هذه المسألة، في قوله: «ولو لم يُنزِل» بخلاف الدليل الآخر فإنه بدلالة الحصر.

- قد يكون الترجيح بسبب خارجي، بسبب دليل آخر.

مثال ذلك: جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «كان يصلي الفجر بغلس»، يعني في الظلمة، في أول الوقت. ثم جاء في الحديث الآخر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر».

فحينئذٍ نقول: أيهما الأفضل: أن نُبكِّر بالفجر أو أن نؤخرها؟

إن أخذنا بحديث «أسفروا بالفجر»، قلنا: الأفضل التأخير.

وإن أخذنا بحديث «كان يصلي بغلس» قدَّمنا.

كان يصلي بغلس ويصلي معه أصحابه، وبالتالي لا يصح أن نحمله على الخصوصية، فننظر إلى مُرجِّح خارجي، وهو قول الله -عز وجل: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148]، فيدلنا على التبكير في هذه المسألة مُقدَّم.

- من أمثلة ذلك: لو تعارض خبران: راوي أحد الخبرين هو صاحب القصة، أو له اتصال بالقصة؛ فإنه يُقدَّم خبره على خبر غيره.

مثال ذلك: جاء في الحديث حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «عقد على ميمونة وهما محرمان». وجاء في حديث عثمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يَنكِح المُحرِم ولا يُنكِح»، ثم جاءنا «لا يَنكِح المُحرِم» يعني لا يكون زوجًا، «ولا يُنكِح» يعني لا يكون وليًّا.

ثم جاءنا في حديث ميمونة قالت: "تزوجني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن حلالان"، ميمون صاحبة القصة، وقال أبو رافع: "تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميمونة وهما حلالان، وكنتُ السفير بينهما"، فميمونة وأبو رافع أعلم بقصتهما من غيرهما، وبالتالي نُقدِّم هذه الرواية على الرواية الأخرى رواية ابن عباس.

- من أمثلة ذلك: لو كان أحد الرواة يروي بالمشافهة، والآخر لا يروي إلا بالغياب.

مثال ذلك: عائشة -رضي الله عنها- كان بعض الرواة يدخلون عليها لقرابتهم منها، مثل عروة ابن الزبير يدخل عليها؛ لأنها خالته، ومثل القاسم بن محمد بن أبي بكر كان يدخل على عائشة لكونها عمَّته، وبينما بعض الرواة لم يكونوا يدخلون على عائشة.

جاءنا في حديث عائشة: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعتق بريرة»، واختلف الرواة عن عائشة، هل كان زوجها مملوكًا حال عتق بريرة، أو كان حُرًّا؟

فروى القاسم قال: عن عائشة "أن بريرة عُتِقَت وزوجها مملوك"، وروى الأسود بن يزيد النخعي عن عائشة أن "بريرة لما عتقت كان زوجها حرًّا" فقلنا: نقدم رواية القاسم لأنه كان يدخل عليها ويشاهد شفتيها ويعرف بنطقها على رواية الأسود.

كذلك قد يكون بعض الناس أقرب، فبالتالي تُرجَّح روايته على رواية غيره.

- كذلك أيضًا من أوجه الترجيح: أن يكون أحد الراويين أكثر ثقة أو أكثر ضبطًا للأحاديث، قد يختلف، يتعارض حديث صحيح وحديث حسن؛ فحينئذٍ نقدِّم الصحيح على الحسن.

إذا كان أحد الحديثين متفق عليه في الصحيحين، والآخر رواه أهل السنن، فحينئذٍ نقدِّم رواية الصحيحين على رواية أهل السنن.

كذلك لو كان عندنا حديثان: أحدهما سنة إقرارية، والآخر سنة قولية؛ فإننا نُقدِّم السنة القولية.

السنة الإقرارية قد تكون مع حضور النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد تكون مع غيابه، فنقدِّم السنة الإقرارية مع حضور النبي -صلى الله عليه وسلم.

- هكذا أيضًا لو تعارض دليلان: أحدهما يدلُّ على الإباحة، والآخر يدلُّ على التحريم؛ فحينئذٍ نقدم دليل التحريم. لماذا؟ لأن الإباحة موافق للأصل، فدلَّ هذا على أن دليل التحريم متأخر عنه.

مثال ذلك: حديث انحسار الثوب عن الفخذ مع حديث تحريم كشف الفخذ، فنقدِّم دليل التحريم. لماذا؟ لأننا إذا قدَّمنا دليل التحريم نقول بأننا قد رفعنا الأصل، بينما إذا قدَّمنا دليل الإباحة كأننا أثبتنا التحريم ثم بعد ذلك قلنا بأنه نُسِخ الخبر، والأصل عدم النسخ.

هناك قواعد كثيرة في الترجيح، قد يوجد في الدليلين المتعارضين أسباب ترجيح كثيرة، وبالتالي نحتاج إلى الموازنة بين هذه الأسباب، مرة يكون مع أحد الدليلين خمسة أسباب ترجيح، مع الدليل الآخر ثلاثة أسباب، وبالتالي نقدِّم الدليل الذي قوِيَت مرجحاته على غيره.

لو كان عندك مشاركة أو سؤال.. نعم..

{مسألة: لو قُدِّر وجود خنزير البحر، ألا يمكن أن يُنظَر في طبيعة نفس الحيوان إذا كانت فيه نفس الصفات الموجودة التي حُرِّمت لأجلها الخنزير المعروف، وما يتعلق بهذا؟}.

الشيخ:

القاعدة عندنا: هل خنزير البحر يدخل في الآية؟ العرب سمَّته خنزيرًا أم لم تسمِّه؟ نقدِّر أنه سمَّته، ونحن إذا أردنا أن نفهم الكتاب نفهمه بواسطة العرب، وقوله: ﴿أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾ هذا يشمل خنزير البحر، وبالتالي يدخل في لفظة "خنزير" الواردة في الآية.

- من قواعد الترجيح: إذا كان عندنا دليل يدل بواسطة المنطوق، ودليل يدل بواسطة المفهوم؛ فإننا نقدِّم المنطوق على المفهوم.

مثال ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة ولا المصتان»، معناه: أن ثلاث مصات مُحرِّمات. هذا في صحيح مسلم.

وجاء في حديث عائشة في الصحيح أنها قالت: "فنُسخْنَ بخمسِ رضعات مُحرِّمات"، فدلَّ هذا على أن الثلاث والأربع لا تُحرِّم بمنطوق الحديث، فيُقدَّم منطوق هذا الحديث على مفهوم الحديث الآخر.

كذلك لو كان أحد الدليلين بواسطة مفهوم الموافقة والآخر بواسطة مفهوم المخالفة؛ فإننا نقدم الدليل الدال بواسطة مفهوم الموافقة على الدليل الدال بواسط مفهوم المخالفة.

كما تقدَّم أيضًا أنه إذا تعارض تحريم مع دليل إباحة قُدِّم دليل التحريم، وقد ورد في ذلك يعني بعض الأخبار الدالة على هذا التقديم.

من ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا أرسلتَ كلبكَ المُعلَّم فوجدت معه كلبًا آخر؛ فلا تأكل»، فهنا اجتمع سببان:

- سبب إباحة: وهو الكلب المُعلَّم.

- وسبب تحريم: وهو الكلب الآخر غير المُعلَّم.

فحينئذٍ نُقدِّم دليل التحريم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا قدَّم دليل التحريم.

ومثله أيضًا ما ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «نهى عن أكل الطير إذا رُميَ بالسهم فسقط في الماء»؛ لأنه اجتمع فيه سببان:

- سبب إباحة وهو الصيد.

- وسبب تحريم: وهو الغرق. فقدمنا دليل التحريم.

في أدلة كثيرة تدل على هذا المعنى.

لو تعارض دليلان: أحدهما يدل على الإثبات والآخر يدل على النفي؛ فحينئذ إن كان النفي مبنيًا على العلم، كما لو قال: "كنت معه فلم يفعل كذا" فنطلب الترجيح بمرجح آخر، ولا نلتفت إلى الإثبات والنفي.

أما إذا كان أحدهما ينفي علمه، فبالتالي نقدم دليل الإثبات.

مثال ذلك: جاء في الحديث حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «دخل البيت فصلى»، جاء في حديث بلال قال: «صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكعبة»، وورد في حديث أسامة وابن عباس، قالوا: «لما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة لم يُصلِّ»، فحينئذٍ قدَّمنا حديث بلال، لأن الإثبات مبني على رؤية، وأما حديث ابن عباس وحديث أسامة فإنه مبني على نفي العلم، لذلك لم نأخذ بقولهما وأخذنا بالمقابل لهما.

أيضًا جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين»، وجاء في الحديث الآخر قال: «لم يصلِّ على شهداء أحد»، فحينئذ نقدم دليل الإثبات.

لكن جمهور أهل العلم قالوا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصلِّ الصلاة المعهودة -صلاة الجنازة- وإنما أراد الراوي أنه دعا، لأن الصلاة في لغة العرب تطلق ويراد بها الدعاء.

- كذلك أيضًا لو قُدِّر أن هناك دليلين: أحدهما يدل على إثبات حدٍّ من الحدود، والآخر يدلُّ على نفي الحدِّ؛ فحينئذ نُقدِّم الأخبار الدالة على نفي الحدود؛ وذلك لأن الشريعة تدرأ الحدود بالشبهات.

- كذلك لو وُجدَ دليلان متعارضان، ولم نتمكن من الجمع، ولا معرفة التاريخ، ولم نصل إلى أسباب ترجيح، لأن أحد الدليلين أخف من الآخر، فأي الدليلين نُقدِّم؟

قال طائفة: يُقدَّم الدليل الأخف لقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ [البقرة: 185].

وقال آخرون بأنه يُقدَّم الدليل الأشد، وذلك بالاحتياط، وليخرج الإنسان بيقين من هذا الواجب.

والصواب في هذا الباب أن يقال: أن هذا لا يُلتفت إليه في الترجيح.

ويدلُّك على هذا: أن اليسر والشدة قد لا تكون على ما يعتقده الناس، فيعتقد أن أحد الأقوال أو أحد الأدلة أشد، وبالتالي لا يكون الأمر كذلك.

مثال هذا: لو سألتكم وقلت لكم بأن الفقهاء قد اختلفوا في تارك الصلاة، فقال طائفة: تارك الصلاة كافر، بناءً على حديث «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها؛ فقد كفر».

وقال آخرون: لا يكفر، واستدلوا على ذلك بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه؛ دخل الجنة».

فحينئذٍ أي الدليلين نقدم؟ لو قدرنا بأننا لم نتمكن من الترجيح بوسيلة أخرى، ولم نتمكن من الجمع، فحينئذ هل نقول بأننا نأخذ بالأخف؟

ما هو الأخف من هذين القولين؟ أن تارك الصلاة لا يكفر، لأخطأتم!

الأخف: من قال بأن تارك الصلاة يكفر، لأن أمر الآخرة وعذاب الآخرة ونعيم الآخرة هذا إلى الله لا نحكم فيه، لكن لو جاءنا إنسان وقال: أنا تركت الصلاة خمس سنوات، وذهب إلى مَن يقول بأن تارك الصلاة كافر، فقال: ماذا أفعل بالصلوات السابقة؟

فإنه يقول له: تب إلى الله توبة صادقة، وعليك بالإكثار من النوافل لتعوض ما فاتك من صلوات.

بينما لو ذهب إلى فقيه يرى أن تارك الصلاة لا يكفر؛ لقال: اقضِ الصلوات الخمس السابقة جميعًا. قد يترك التوبة بسبب ذلك لمشقة مثل هذا الأمر.

فأي القولين الأسهل وأي القولين الأشد؟ ولذلك ينبغي أن يلاحظ أن مسألة الأخف والأشد ليست على ما نظنه ابتداءً في جميع المسائل التي تعرض علينا. ومن هنا ينبغي بنا أن نتفطن في مثل هذا.

- كذلك أيضًا من أمور الترجيحات: لو كان أحد الخبرين قد عمل به الصحابة وأجمعوا عليه، أو عمله أبو بكر، أو عمل به أبو بكر وعمر؛ فإنه حينئذ يُقدم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «اقتدوا بالذين من بعدي، أبي بكر وعمر». نسأل الله -عز وجل- أن يرضى عنهما.

كذلك أيضًا هناك المقصود أن هناك أسبابَ ترجيح كثيرة متعددة، لا بد للفقيه أن ينظر فيها جميعًا، وأن يتدارسها.

نمثل بمثال: وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا».

قال الحنابلة والشافعية: التفرق: هذا المراد به التفرق بالبدن.

وقال المالكية والحنفية: «ما لم يتفرقا» يعني بالأقوال.

فرجحنا القول الأول، لأن الراوي لهذا الحديث قد فسَّره، فكان ابن عمر إذا باع بيعًا فارق ببدنه مكان البيع من أجل أن يتمَّ البيع.

كما يحصل تعارض بين الأحاديث والدليل النقلي كذلك يحصل تعارض بين الأقيسة، وهناك وسائل للترجيح بين الأقيسة المتعارضة، فهناك أسباب كثيرة للترجيح بينها.

يقول -عندنا عدد من الأسئلة- يقول:

{هل يُنصح بالتوسع في علم أصول الفقه؟}

نقول: نعم، قربة من القربات، وعلم شرعي نتمكن به من فهم الكتاب والسنة، ونتمكن به من استخراج الأحكام من الأدلة، ولا يكون الإنسان فقيهًا ولا عالمًا إلا إذا كان عارفًا بهذا العلم، قادرًا على تطبيق على الأدلة.

كيف نجمع بين الدليلين؟

الجمع بين الدليلين بحمل أحد الدليلين على محل، وحمل الدليل الآخر على محلٍّ آخر.

هل يُشترط في التعارض التساوي في القوة؟

اشترطنا ثلاثةَ شروط للتعارض، وبالتالي:

الشرط الأول: التنافي في المدلول.

الشرط الثاني: صحة الدليلين.

الشرط الثالث: تواردهما على محلٍّ واحد.

ومن ثمَّ لو كان أحد الدليلين صحيحًا والآخر حسنًا؛ قيل: هذا من التعارض، وبالتالي نحتاج إلى تطبيق القواعد الواردة فيه.

{الترجيح بين قولين لعالمين معاصرين؟}

نحن الآن نتكلم عن التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، وأما التعارض بين فتاوى المفتين فهذا نأخذه -إن شاء الله- في مباحث الاجتهاد والمفتي والمستفتي، ولعله -إن شاء الله- يكون بعد لقائين.

{كيف يتم ترتيب التعامل مع التعارض؟}

أولًا: جمع.

ثانيًا: الأخذ بالمتأخر في التاريخ ونجعله ناسخًا.

ثالثًا: الترجيح.

رابعًا: التوقف في الفتوى والقضاء، وأما بالنسبة للعمل: فإنه إما أن يقلِّد، وإما أن يحتاط في عبادته.

{حديث بلال -رضي الله عنه- عندما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكعبة، كان راويًا واحد، وحديث ابن عباس -رضي الله عنه- وأسامة كان راويان، يعني الترجيح مع عدد الرواة؟}

الشيخ:

تقدَّم معنا أن أسباب الترجيح قد تتعارض، وبالتالي بعض أسباب الترجيح أقوى من الأسباب الأخرى.

ومن أمثلة هذا: إذا كان هناك تعارض بين الإثبات والنفي، وكان النفي غير مبني على العلم، إنما يُبنى على عدم العلم، فبالتالي نُقدِّم رواية الإثبات، وهي أقوى، وهذا سبب مرجح أقوى من السبب الآخر، ولذلك فأسباب الترجيح قد تتعارض.

{المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملًا ؟}

فإنه حينئذٍ الصواب أننا نقول بأنه تعتدّ بوضع الحمل لحديث سبيعة الأسلمية، فإن زوجها توفي عنها ثم وضعت الحمل بعد أيام قليلة فأفتاها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن عدتها تنتهي بوضع حملها.

{إذا جاءنا حديثان: الأول فيه نهي عن فعل، والثاني فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد فعل ذلك؛ فحينئذٍ ماذا نفعل؟}

نقول: بأننا نقدم القول على الفعل؛ وذلك لأن الفعل يحتمل أن يكون خاصًّا.

{مَنِ الأولى من أهل العلم الذي نأخذ بقوله في مسائل الترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض؟}

عندنا مسائل أصولية وقواعد أصولية فيها الترجيح بين الأدلة، هذا نأخذه في هذا العلم، ولا بد أن الناظر يكون مجتهدًا.

النوع الثاني: الترجيح بين أقوال العلماء، فهذا -إن شاء الله- نعرض له في لقاء قادم فيما يتعلق بتعارض أقوال المفتين، إذا اختلف المفتون ماذا يفعل العامي.

أسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح والنية الخالصة، كما أسأله -جل وعلا- أن يُكثر الفقهاء في الأمة، وأن يجعل في الأمة علماء يستخرجون الأحكام من الأدلة كتابًا وسنة.

كما أسأله -جل وعلا- أن يعيد الأمة إلى دينه القويم، وأسأله -جل وعلا- أن يحقن دماء المسلمين في كل مكان، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يولي عليهم خيارهم.

كما أسأله -جل وعلا- التوفيق لكل مَن ساهم في ترتيب هذا اللقاء.

هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا.

http://islamacademy.net/cats3.php