الحقوق محفوظة لأصحابها

سعد الشثري
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد..

فأرحب بكم، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا، وأسأل الله -جل وعلا- لكم التوفيق لخيري الدنيا والآخرة، اللهم يا حي يا قيوم أسألك أن ترضى عنهم وأن تحبهم وأن ترفع درجتهم.

وبعد..

ذكرنا أن من المباحث التي نهتم بها في هذا العلم ما يتعلق بكيفية تفسير كلام رب العزة والجلال، بحيث ننزل الآيات القرآنية على مراد الله -عز وجل-، وهكذا الأحاديث النبوية.

وهناك مباحث تنظم هذا التفسير، لأن بعض الناس يأتي ويهجم على بعض الآيات القرآنية فيفسرها من عند نفسه، وبالتالي يقع في ضلال كبير، وقد يكون من أسباب ضلال كثير من الخلق.

ومن هنا نعرف أن تفسير الأحاديث النبوية والآيات القرآنية له قواعد وضوابط لا بد من السير عليها، من لم يسر على هذه القواعد فإنه قد يُحمِّل كلام الله -جل وعلا- ما لم يحتمله، وقد لا يفهم مراد رب العزة والجلال.

من المباحث التي تتعلق بهذا الأمر: مباحث المجمل والمبيَّن.

المجمل: هو الذي لا يُعرف معناه، ويحتاج إلى بيان من أجل معرفة المعنى.

ومن أمثلة ذلك قول الله -جل وعلا: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141]، لما ذكر الله -سبحانه وتعالى- ما يخرج من الأرض أمرنا بهذا الأمر ﴿وَآتُوا﴾ فعل أمر، ﴿حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾. ما المراد بحقه؟ كم مقداره؟ ومتى يجب؟ هذا يقال له مجمل؛ لأننا لا نعرف معناه. فهنا لا نعرف له أي معنى، فنتوقف فيه حتى يأتينا دليل يوضح المراد منه.

ومن أمثلة ذلك أيضًا: في عدة المطلقة، يقول الله -عز وجل: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، القُرْء في لغة العرب يُطلق على معنيين: الطهر والحيض.

فهل المراد بقوله: ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ ثلاث حِيَض؟ أو المراد ثلاثة أطهار؟

للعلماء في ذلك قولان، لماذا؟ لأن القرء في لغة العرب يُطلق على المعنيين، فنحتاج إلى دليل يُفسر المراد بكلمة القرء.

المجمل ما حكمه؟ يجب علينا أن نتوقف فيه، وألا نفسره بأي تفسير حتى يأتينا دليل شرعي يوضح المراد منه.

والدليل قد يكون بدليل مستقل، مثل قوله: ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾، فسَّرَه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «فيما سقت السماء العُشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر»، هنا فُسِّر بدليل خارجي.

وقد يكون التفسير بقرينة موجودة في نفس الخطاب، مثال ذلك: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾، طائفة من أهل العلم قالوا: ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ يعني ثلاث حِيَض، لماذا؟ قالوا: لأننا لو جعلنا المراد بالقرء الطهر لكانت إما أن تعتد بطهرين وشيء، أو ثلاثة أطهار وشيء. لأنه متى يطلقها؟ في طهر لم يجامعها فيه، فإن حسبنا الطهر الذي طُلِّقت فيه أصبحنا لم نجعلها تعتدّ إلا طهرين وشيء، وإن قلنا: لا يعتدُّ بذلك أصبحت تجلس ثلاثة أطهار، و وهذا الطهر.

بينما إذا قلنا: ثلاث حِيَض فإنها تجلس ثلاث حِيَض كاملة لا نُقصان فيها، فهنا استدلال بقرينة موجودة في الآية توضح المراد بها.

أما البيان: فإنه قد يُراد به توضح الأحكام أول مرة، إذن قوله: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ﴾، مثل قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، هذا بيان للحكم ابتداءً، قد يسمَّى بيانًا.

لكن هذا خلاف المشهور عند الأصوليين.

عند الأصوليين: أن البيان: هو توضيح اللفظ المجمل غير المفهوم، أو مثلما قال المؤلف: (إخراج الشيء -يعني اللفظ- من حيِّز الإشكال إلى حيِّز الوضوح والتجلي).

مثال ذلك: لم جاءنا حديث: «فيما سقت السماء العشر» قلنا: هذا الحديث يفسر: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾، فيكون هذا بيانًا.

الكلام العربي على ثلاثة أقسام:

أولها: المجمل الذي ذكرناه قبل قليل.

وثانيها: النص الذي لا يحتمل إلا معنًى واحدًا.

مثال ذلك: قال -جل وعلا: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، هل تحتمل أنها ثلاثة؟ ما تحتمل. هذا يسمى نصًّا. ماذا يسمى؟ نصًّا.

﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ﴾ [البقرة: 196]، ثلاثة أيام، يعني أسبوعًا؟ لا، إذن هذا ماذا؟ لا يحتمل غير هذا، هذا يسمى نصًّا.

وبعض العلماء قال: بأن النص ما تأويله تنزيله، يعني بمجرد أن ينزل يكون معناه واضحًا مفسرًا، وهو مشتق من "منصة العروس"، العروس كانوا يضعون لها منصة تكون عند النساء، فيضعون لها مكان مرتفع واضح، تشاهدها جميع النساء، يقال: "منصة العروس"؛ لأن الرجل لا يدخل معها في تلك المنصة؛ لأن الرجال لا يدخلون عند النساء.

إذن: هذا الكرسي المرتفع يسمونه منصة، لماذا يسمونه منصة؟ لأنه واضح بيِّن، فلذلك سموا الكلام الواضح الذي لا احتمال فيه، سموه نصًّا.

هناك نوع ثالث يسمى: الظاهر، إذن عندنا: المجمل، وعندنا النص، وعندنا الظاهر.

الظاهر: كلمة تحتمل معنيين، لكنها في أحد المعنيين أرجح وأظهر.

مثال ذلك: في قول الله -جل وعلا: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ [الفلق 1-3]، هنا ﴿وَقَبَ﴾، أكثر العلم قالوا: أن المراد به الدخول، وإن كانت تحتمل الخروج.

الغاسق: الذي يُغطِّي كالليل، أمرنا الله -عز وجل- بالاستعاذة من شرِّ هذا الغاسق إذا دخل، يحتمل أن ﴿وَقَبَ﴾ بمعنى خرج، لكنه احتمال أضعف من الأول.

بعض أهل العلم قال بأن الحديث يشمل المعنيين، بأن الآية تشمل المعنيين.

نأتي بمثال آخر: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة نكحت نفسها؛ فنكاحها باطل»، "امرأة" ما تعني؟ امرأة.

لو جاءنا واحد قال: لا، المراد بهذه "امرأة" يعني أَمة مملوكة، الأمة المملوكة ما تزوج نفسها، يزوجها وليها، سيدها، بينما الحرة لا تدخل في هذا الحديث.

نقول: هذا محتمل، لكنه معنى مرجوح، المعنى الراجح: أن المراد بهذا اللفظ: هو العموم؛ لأن "امرأة" نكرة في سياق الشرط «أيما»، والنكرة في سياق النفي وما سلك الشرط يُفيد العموم -كما تقدَّم معنا في لقاء سابق.

طيب.. الأصل في لفظة "فـ" حرف الفاء، قد يراد به مجرد الاشتراك بين اثنين، وقد يُراد به التعقيب.

مثال ذلك: تقول: جاء زيد فعمرو. من الذي جاء أولًا: زيد؛ لأن "فـ" تفيد التعقيب، هذا هو الظاهر من هذا الحرف.

لكن في بعض المرات يؤتى بلفظة الفاء ولا يُراد بها التعقيب، مثل قول الله -عز وجل: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98]، يعني هل معنى الآية: أنك تبدأ بقراءة القرآن أولًا، ثم إذا فرغت تستعيذ؟ الفاء أليست للتعقيب؟ لكنها هنا لم تأتِ للتعقيب، تُرِكَ الظاهر. لماذا؟ لوجود دليل يدلُّ، وهو: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستعيذ أولًا قبل القراءة ثم يقرأ، كما ورد ذلك في عدد من الأحاديث.

إذن: عرفنا أن النص يجب العمل به على معناه، وأن المجمل يجب أن نتوقف فيه حتى يأتي دليل يوضح المراد به.

طيب.. الظاهر؟ الظاهر: يجب العمل بالمعنى الراجح، ولا يجوز الانتقال إلى المعنى المرجوح إلا لدليل، فلما قال: «إنما جُعِلَ الإمام ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكبِّروا» نقول: لا بد أن يكون تكبير المأموم بعد تكبير الإمام؛ لأن الأصل في الفاء أن تكون للتعقيب، إلا في الآية: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ﴾، تركنا الظاهر لوجود دليل يدل على أن التعقيب ليس مرادًا.

صرف الظاهر عن المعنى الراجح إلى المعنى، المعنى المرجوح يسمى التأويل.

إذن: ما المراد بالتأويل عندنا هنا؟ صرف اللفظ الظاهر عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح.

ما حكم التأويل؟

إن كان التأويل لدليل فهو صحيح ومقبول، وإن كان التأويل لغير دليل فهو غير مقبول.

مثال ذلك: الفاء قبل قليل في الآية صرفناها من التعقيب إلى مجرد الجمع، فهذا التأويل صحيح لورود دليل يدل عليه.

يقول الله -جل وعلا: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾ [النساء: 164]، قال أهل السنة: فيه إثبات صفة الكلام لله -عز وجل-، وفيه إثبات أن الله يتكلم متى شاء -سبحانه وتعالى.

بعض منكري الصفات قالوا:

1- لا، هذه الآية يُراد بها أنه جرحه بجروح الحكمة.

2- قالوا: الكُلْم يُراد به الجُرح.

ويستدلون على ذلك بحديث «ما من مكلوم يُكْلم في سبيل الله؛ إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك».

فنقول: الأصل: أن نحمل اللفظ على ظاهره.

طيب.. هذا الحديث يصح لتأويل الآية؟ نقول: لا يصح. لماذا؟ لأن الآية يقول فيها ﴿وَكَلَّمَ﴾ بالتشديد، ثم أتى بالمفعول المطلق ﴿تَكْلِيماً﴾، ولم يقل: كُلْمًا. فدلَّ هذا على أنه لا يصح هذا التأويل.

ولذلك: كثير من نفاة الصفات يؤولون نصوص الصفات بدعوى وجود دليل، أو بدعوى نفي المشابهة بين الخالق والمخلوق، ثم إذا نظرتَ وجدتَ أن ذلك الدليل لا يدلُّ على ما يدَّعونه من التأويل.

والأصل أننا نعمل بظواهر النصوص ولا نؤولها، هذا هو الأصل، والتأويل هذا نادر في مواطن قليلة يسيرة.

ننتقل بعد ذلك إلى مبحث آخر وهو مبحث: الأفعال النبوية.

فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- هل هو حجَّة؟ هل يُعمل به أو لا يُعمل به؟

فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قبل ورود الشريعة إليه، قال جماهير أهل العلم: لا يُحتجُّ به؛ لأنه قبل نزول الوحي عليه، وبالتالي لا يؤخذ منه حكم.

طيب.. أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد النبوة ما حكمها؟

أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد النبوة على أنواع:

- النوع الأول: ما فعل -صلى الله عليه وسلم- على الاختصاص به، يعني وردنا دليل أن هذا الفعل خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم.

مثال ذلك: قول الله -عز وجل- في الواهبة نفسها: ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب: 50]، ففي هذه الآية دليل على أن قبول الهبة من المرأة هذا خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، أما غيره لا يصح للمرأة أن تهب نفسها، ويقول هو: قبلت هذه الهبة. فهذا خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم.

- النوع الثاني: ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه القربة والطاعة، يقرب به لله -عز وجل-، فمثل هذا النوع يدل على أن ذلك الفعل مشروع، وأنه قربة يُتقرَّب بها لله -عز وجل- باتفاق أهل العلم.

فطائفة قالوا: بأن هذا الفعل يكون على الوجوب؛ لأن الله -عز وجل- أمر الأمر بالاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾ [الأحزاب: 21]، وقال -تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، ﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ أمر، الأصل في الأوامر الوجوب.

واستدلوا عليه بقوله -عز وجل: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7]، ومما أتى به: فعله -صلى الله عليه وسلم.

وطائفة قالوا: بأن هذه الأفعال على الاستحباب وليست على الوجوب، إذ لو كانت واجبة لأمر بها -صلى الله عليه وسلم- أصحابه.

إذن: هذان فعلان: الأول: ما اختص به، مثل زواجه بتسع، هذا خاص.

النوع الثاني: ما فعله على جهة القربة والطاعة.

بعضهم قال: للوجوب، وبعضهم قال: يُحمل على الندب، وبعضهم قال: نتوقف فيه.

لعل الراجح: أنه على الاستحباب، إذ لو كان واجبًا لأمر أصحابه به.

- النوع الثالث: ما فعله -صلى الله عليه وسلم- على جهة الجبلة، أو على جهة العادة.

مثال ذلك: وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل زامنه يربُّون شعورهم، ففعل ذلك مماثلًا لفعلهم، فحينئذٍ نقول: هذا الفعل على العادة والجبلة، وبالتالي فيكون على الإباحة.

كان -صلى الله عليه وسلم- يبلس الإزار والرداء، فحينئذٍ نقول: هذا الفعل على الإباحة؛ لأنه لم يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- على جهة القربة.

قد يقع في بعض الأفعال اختلاف، وبالتالي يختلف الفقهاء في حكم ذلك الفعل.

نُمثِّل بمثالين:

- في جلسة الاستراحة، إذا فرغ المصلي من الركعة الأولى، ورد في حديث مالك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «كان يجلس للاستراحة قبل أن يقوم للركعة الثانية».

فبعض أهل العلم قال: هذا قربة وطاعة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلها.

وبعض أهل العلم قالوا: هذا على الإباحة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها إلا بعد كِبَر سنه، فيكون على الإباحة.

إذن: وقع الاختلاف في هذا الفعل، هل هو على سبيل القربة والعبادة، أو على سبيل العادة.

والأظهر: أن هذا الفعل على سبيل العبادة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ولو كان هذا الفعل غير مشروع؛ لأخبر أصحابه بعد مشروعية هذا الفعل.

- المثال الثاني: لبس الخاتم. ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لبس الخاتم، كما في حديث أنس وغيره، فهل فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- على جهة القربة والعبادة أو هو على جهة العادة؟ هذا من مواطن الخلاف بين الفقهاء.

بعضهم قال: هو عبادة، بل بعضهم قال بأنه واجب، وبأنه ما تصح الصلاة إلا به.

وجمهور أهل العلم قالوا بأن لبس الخاتم من العادات وليس من العبادات.

والأرجح: هو القول الثاني؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما لبسه لسببٍ يعود إلى عادات الناس؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يكتب إلى ملوك زمانه، قالوا: إن الملوك لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختومًا؛ فاتخذ الخاتم.

إذن: اتخاذ الخاتم من أجل عادة الناس في ذلك الزمان، أو عادة ملوك ذلك الزمان أنهم لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختومًا.

طيب.. قال: (فإن كان على غير وجه القربة والطاعة فيُحمل على الإباحة في حقه وحقنا).

ننتقل إلى أمر آخر مما يُنسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أنواع:

- أقوال: كحديث «إنما الأعمال بالنيات».

- وأفعال.

- وإقرار.

ما هو المراد بالإقرار؟

الإقرار: أن يسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يُشاهد أحدًا من أصحابه يقول قولًا أو يفعل فعلًا فلا يُنكر عليه.

لو شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مشركًا يفعل فعلًا فلم يُنكر عليه، هذا لا يدخل في الإقرار. لماذا؟ لأن المشرك أصلًا لا يقبل من النبي -صلى الله عليه وسلم.

ومن أمثلة ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «رأى أصحابه يأكلون الضب، فلم يُنكر عليهم» فهذا سنة ماذا؟ إقرارية.

والسنة الإقرارية هذه تدل على الإباحة إن كانت في العادات، مثل: أكل الضب.

وتدل على الاستحباب إن كان في العبادات.

لو قُدِّرَ أن أحد الصحابة فعل فعلًا من العبادات فأقرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن هذا يدل على استحبابه.

مثال ذلك: خبيب بن عدي -رضي الله عنه- لما أخذه أهل مكة وأرادوا أن يقتلوه؛ طلب منهم أن يسمحوا أن يصلي ركعتين، سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك وعرف به فلم ينكره.

ومن هنا قلنا بأن سنة القتل هذه مشروعة وعبادة ومن المستحبات، لماذا؟ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرَّها من أحد أصحابه وهي عبادة.

قال: هناك نوع آخر يُلحق بالإقرار، وهو ما فُعِل في وقت النبي -صلى الله عليه وسلم- بغير مجلسه، وعلم به ولم يُنكره فإنه له حكم ما فعل في مجلسه. مثل فعل خبيب بن عدي الذي ذكرناه قبل قليل.

هناك أشياء لم يعلم بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يأتِ دليل أنه علمَ بها، يسميها بعض الأصوليين: الإقرار في زمن النبوة، إقرار الله في زمن النبوة.

مثل: حديث جابر "كنا نعزل والقرآن ينزل"، فهذا يرى أكثر الأصوليين أنه مما يحتج به، وأنه يدل على الإباحة والجواز، قالوا: لأنه لو كان حرامًا أو منكرًا لبلَّغ الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- إنكار ذلك الفعل، فلما لم يُنكر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ دل حينئذ على عدم المنع منه.

ننتقل إلى مبحث جديد وهو: مبحث النسخ.

الأسئلة هنا لم يصلنا منها شيء، تفضل يا عبد الحكيم.

{شيخ -أحسن الله إليك- الوصال في الصوم، هل يعتبر من أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- الخاصة؟}.

الشيخ:

طيب.. الوصال في الصوم على نوعين:

- وصال يوم بيوم: وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه وفعله، فحينئذٍ نحمل الفعل على أنه من خصائصه، ونقول: بأن القول يشمل جميع الأمة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: «إني لستُ كهيئتكم» فدل هذا على اختصاص مشروعية الوصال به -صلى الله عليه وسلم.

- النوع الثاني: الوصال إلى السَّحَر، الأول ممنوع منه بالنسبة للأمة -وصال يوم بيوم.

والثاني: وصال إلى السحر، فهذا مباح؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر»، فدل هذا على أنه ليس بمحرم، لكنه مكروه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن أفضل أمته أعجلهم فطرًا.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُبادر بالإفطار، وقد طلب ماءً، فقال له بعض أصحابه: لا زال الوقت. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس؛ فقد أفطر الصائم».

ننتقل إلى النسخ.

المراد بالنسخ: أن يأتي دليل شرعي ثم يُقرر حكمًا شرعيًّا، ثم يُلغى هذا الحكمُ، ويُؤتى بحكمٍ آخرَ.

مثال ذلك: كانت القبلة في أول الإسلام إلى أين؟ إلى بيت المقدس، ثم بعد ذلك غُيِّرت إلى الكعبة، قال -تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾ [البقرة: 144]، فهنا هذا نسخ.

إذن: لماذا ورد النسخ؟

- النسخ قد يكون لتسهيل الحكم على الناس في زمن التشريع.

- وقد يكون من أجل ابتلاء الصحابة واختبارهم، هل يصدقون ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وما يرد من الأحكام ؟ أو يترددون في ذلك؟

- كذلك من حكمة النسخ: التخفيف عن العباد.

- وقد تكون المصلحة في زمان في شيء، ثم تكون المصلحة في زمان آخر في شيء آخر، وبالتالي راعت النصوص الشرعية الأمرين.

والنسخ لا يكون إلا بدليل شرعي من قرآن أو سنة، لا يصح أن ننسخ بواسطة الإجماع، ولا بواسطة القياس، ولا بواسطة اجتهاد المجتهدين، كل هذا لا يصح النسخ به.

النسخ إنما يكون بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، لا يصح أن تقول بالدليل؛ لأن الإجماع دليل، والقياس دليل، ومع ذلك لا يصح النسخ بهما، إنما يكون النسخ بماذا؟ بالنص، كتاب وسنة.

أولًا: نُقرر أن هذه الشريعة، شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- ناسخة للشرائع السابقة، قال -تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48]، وقال -تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28].

عرَّف المؤلف النسخَ في اللغة، فقال: بأن النسخ معناه الإزالة. إذا أزيل الشيء قيل هذا نسخه.

ومن هنا يُقال: نسخت الريح الأثر، يعني أزالت آثار الأقدام ونحوه.

وقيل معناه: النقل، يعني أن من معاني النسخ في لغة العرب: النقل، ولذلك إذا أخذت الكتاب وأصبحت تنقل منه، قيل: فلان ينسخ الكتاب. هذا نقل.

هذا التعريف لغوي، هذا التعريف في اللغة.

أما في الاصطلاح: فالنسخ: هو رفع حكم خطاب متقدم بواسطة خطاب متأخر.

عرفه المؤلف فقال: (وحَدُّه)، ما معنى كلمة (وحَدُّه)؟ يعني تعريفه، يعني التعريف.

قال: (هو الخطاب الجديد الدال على رفع حكم سابق ثابت بخطاب متقدم)، لولا الخطاب الجديد؛ لكان الحكم السابق ثابتًا، ولا بد أن يكون الخطاب الجديد متراخيًا أي متأخرًا عنه.

مثال ذلك: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها»، هل النهي في وقت الحديث أو سابق؟ «كنت» هذا سابق. هذا الحديث ناسخ لما قبله، لحكم متقرر قبله.

إذن: هذا الحديث خطاب يدل على رفع الحكم السابق بمنع زيادة القبور بواسطة خطاب جديد متقدم، لولا هذا الخطاب الجديد لكان الحكم السابق ثابتًا، والخطاب الجديد يتراخى عن الخطاب السابق، هذا نسميه نسخًا.

تلاحظون أن النسخ ليس هو ذات الخطاب، الخطاب الجديد هذا نسميه ماذا؟ ناسخًا.

أما النسخ: فهو الرفع، رفع الخطاب الأول.

ونمثِّل لذلك بأمثلة:

كان الربا في أول الإسلام جائزًا، ثم جاءت الشريعة بتحريم الربا، قال الله -تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، هل هذا يسمى نسخًا؟ نقول: لا يسمى نسخًا. لماذا؟ لأن إباحة الربا ليست بخطاب، وإنما بالإباحة الأصلية.

مثال آخر: جاءت الشريعة بتحريم الخمر، متى نزل الخمر؟ في المدينة، كان قبل ذلك لم يأتِ دليل بتحريمه فكان مباحًا، لكن تلك الإباحة لم تثبت بدليل خطاب لم تكن بنصٍ شرعي، وإنما كانت بالإباحة الأصلية.

فرفع تحريم الخمر بواسطة الخطاب الجديد هذا لا يسمى نسخًا.

طيب.. نأتي بمثال صحيح للنسخ، وبعد ذلك نذكر شروط النسخ بناء على التعريف.

يقول الله -عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [المزمل 1، 2]، ﴿قُمِ﴾ فعل أمر. ثم في آخر السورة قال -تعالى: ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ [المزمل: 20]، فدلَّ هذا على رفع وجوب قيام الليل.

قيام الليل كان واجبًا بدلالة: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [المزمل: 2]، نُسِخَ في آخر السورة بخطاب جديد، فهذا يسمى نسخًا.

نأتي بمثال آخر أوضح من هذا:

قوله -عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: 65]، كان في أول الإسلام إذا واجه رجل مسلم عشرة من الكفار وجب عليه البقاء ويقاتلهم، إما أن يقتلهم وإما أن يُقتل، ولا يجوز له الفرار.

ثم نُسخت هذه الآية: ﴿القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ بالآية التي بعدها: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: 66]، يعني إذا واجه المسلم ثلاثة جاز له الفرار، كان في الأول لا يفر من عشرة، إذا كان العدوُّ أحد عشر؛ جاز أن يفرَّ منهم، والآن بعد ذلك نُسخ الحكم.

الحكم الأول ثابت بواسطة دليل، والحكم الثاني ثابت بواسطة دليل.

إذن ما هي شروط النسخ؟

- لا بد أن يكون الناسخ خطابًا.

- ولا بد أن يكون المنسوخ خطابًا.

- ولا بد أن يكون الناسخ والمنسوخ متنافيين في الحكم، بحيث يكون الناسخ رافعًا للحكم المتقدِّم.

- ولا بد أن يكون الناسخ متأخرًا عن المنسوخ، لا يصح أن ينزلا في وقت واحد.

قد يقول قائل: ألا يدل وجود النسخ في الشريعة على الطعن فيها؟

نقول: لا، بل هذا له فوائد ومصالح -كما تقدم معنا في أول المباحث-؛ لأن النسخ مقرر بناء على وجود المصالح، فقد يكون الحكم مصلحة في أول الأمر، ثم بعد ذلك تكون المصلحة في حكم آخر.

ولذا قال -تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا﴾ [البقرة: 106]، ويقول -جل وعلا: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 101].

طيب.. هناك مباحث..، عندك سؤال؟ نعم، تفضل..

{أثابك الله يا شيخنا، هل هناك مَن صنف في الآيات التي نُسخت لفظًا ولم تُنسخ حكمًا؟}.

الشيخ:

طيب.. سنأتي الآن إلى تقسيمات، وهو جواب على سؤالك، النسخ يمكن تقسيمه بتقسيمات متعددة:

النوع الأول: أن يكون هناك نسخ للآية بحكمها ومع بقاء نصها.

مثاله: المثال الذي قبل قليل، لما قال -جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾، ثم في الآية التي بعدها: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾.

الحكم الموجود في الآية الأولى نُسِخ، لكن التلاوة موجودة، لا زالت آية من القرآن، فهنا نُسخ الحكم وبقي الرسم. وهو النوع الثاني الذي ذكره المؤلف.

النوع الثاني: بالعكس: يُنسخ رسم الآية لكن يبقى حكمها.

مثال ذلك: كان هناك آية نزلت في أن الزاني المحصن يُرجَم، هذه الآية نُسخ رسمها وتلاوتها وبقي حكمها.

وقد يكون هناك نوع ثالث: بنسخ الحكم ونسخ التلاوة والرسم.

ومثاله: ما ورد في حديث عائشة، قالت: "كان فيما أنزل من القرآن: ﴿عشر رضعات معلومات محرمات﴾، ثم نسُخن بخمسٍ معلومات"، فهنا كان هناك آية نُسخ لفظها ونُسخ حكمها.

وقسم المؤلف النسخ إلى تقسيم آخر، فقال: (النسخ أيضًا ينقسم إلى بدل وإلى غير بدل).

مثال ذلك: جاءنا في النسخ أن في عهد النبوة كان إذا أراد أحد أن يُناجي النبي -صلى الله عليه وسلم- ويكلمه سرًّا يُقدِّم صدقة: ﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [المجادلة: 12]، ثم بعد ذلك: نُسح الحكم ولم يجب تقديم صدقة، هذا يسمونه: نسخ إلى غير بدل.

والنوع الثاني: نسخ إلى بدل، مثال ذلك: كانت القبلة إلى بيت المقدس فنُسخت إلى الكعبة، هذا إلى بدل.

وكان في أول الإسلام يجب صيام عاشوراء فنُسخ إلى صيام شهر رمضان. هذا نسخ إلى بدل.

بعض أهل العلم يقول: بأنه لا يوجد هناك نسخ إلى غير بدل. لماذا؟ يقول: إذا رُفعَ حكم لا بد أن يوجد حكم آخر، إذا رُفع الوجوب يكون هناك الإباحة، رُفعَ وجوب تقديم الصدقة بين يدي النجوى فأصبح هناك إباحة. فيقولون: لا يوجد نسخ إلى غير بدل.

قسَّم المؤلف أيضًا النسخ إلى تقسيم آخر فقال: وينقسم النسخ إلى ما هو أغلظ، وإلى ما هو أخف.

في مرات تأتي الشريعة بحكم فتنسخه إلى ما هو أشد منه، من أجل تحقيق مصالح العباد.

مثال ذلك: جاء في الشريعة -مثال ما هو أغلظ- أن الصيام في أول الإسلام كان ليوم عاشوراء، كم يوما؟ يوم واحد. ثم نُسخ إلى شهر رمضان، ثلاثين يومًا، فهذا نسخ إلى أغلظ، لكن يُحقق مصلحة العباد.

وقد يكون النسخ إلى ما هو أخف، من أمثلة ذلك: أن الشريعة حرَّم زيارة القبور ثم أباحتها وندبت إليها بالنسبة للرجال.

مثال آخر: كان المؤمن يجب عليه أو يصابر عشرة فنُسخ إلى اثنين. هذا إلى أغلظ أو إلى أخف؟ إلى أخف.

مثال ذلك: كان في أول الإسلام مَن أراد أن يصوم شهر رمضان صام، ومَن أراد ألا يصوم عليه أن يُطعم مسكينًا، ثم بعد ذلك وجب على المؤمنين القادرين أن يصوموا لقوله -تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]، الآية التي قبلها: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184].

كذلك يمكن تقسيم النسخ باعتبار الناسخ والمنسوخ إلى عدد من التقسيمات:

أولًا: نسخ الكتاب بالكتاب: يعني يوجد حكم ثابت في القرآن فيُنسخ بآية من القرآن أخرى. مَن يُمثِّل لها؟ آية المصابرة، وآية الصدقة بين يدي النجوى. كان هناك آية من القرآن تُثبت حكمًا فنُسخ حكم الآية الأولى بآية أخرى، فهذا نسخ للكتاب بواسطة الكتاب.

الثاني: نسخ السنة بالكتاب: يعني يكون هناك حكم مُقرر في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فتأتي آية من القرآن فتنسخ ذلك الحديث.

مثال هذا: كان في أول الإسلام القبلة إلى بيت المقدس بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره، لا يوجد آية، ثم نُسخت هذه السنة بواسطة آية وهي قوله -عز وجل: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾ [البقرة: 144]، يعني هذا النوع الثاني نوع نسخ السنة بالكتاب.

الثالث: نسخ السنة بواسطة السنة.

مثال ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ ألا فزوروها»، فهذا نسخ للسنة بالسنة.

ومن أمثلته: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتحريق رجلين من قريش بالنار، ثم قال: «إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا بالنار، وإنه لا يُعذِّب بالنار إلا ربُّ النار، فإذا أخذتموهما فاقتلوهما».

باقي قسم رابع وهو: نسخ الكتاب بالسنة، لم يذكره المؤلف هنا، لأن الشافعية لا يرون أن السنة تنسخ الكتاب، والجمهور يُجيزون أن يكون الحديث النبوي ناسخًا للكتاب، ويُمثِّلون لذلك: بقول الله -جل وعلا: ﴿وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ [النساء: 15]، قالوا: هذه الآية نُسخت بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «قد جعل الله لهن سبيلًا، خذوا عني، خذوا عني: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم».

وقد يمثلون له أيضًا بقول الله -عز وجل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 180]، نسخت بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث».

والشافعية يقولون: هذه الآية نُسِخت بآية المواريث، ولم تُنسخ بهذا الحديث.

نأتي إلى تقسيم آخر من تقسيم النسخ.

قال: (ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر منهما). يعني أنه إذا كان هناك متواتر من الكتاب يجوز أن ينسخ متواتر من الكتاب، إذا كان هناك متواتر يمكن أن يُنسخ بمتواتر من الكتاب أو من السنة.

كذلك من أمثلة ذلك: نسخ الآيات بعضها ببعض، هذا نسخ متواتر بمتواتر.

النوع الثاني: نسخ آحاد بآحاد. مثال ذلك: حديث «كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ ألا فزوروها»، هنا نسخ حديث آحاد بحديث آحاد.

ومثاله أيضًا: «كنت نهيتكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث، ألا فكلوا وادَّخروا»، هنا نُسِخ حديث بواسطة حديث آخر.

قد يكون هناك حديث آحاد يُنسخ بمتواتر، قد يكون هناك نسخ للسنة الآحادية بواسطة دليل متواتر من الكتاب أو من السنة.

هل يجوز أن يُنسخ المتواتر بواسطة الآحاد، أو لا يجوز ذلك؟

هذه المسألة من المواطن التي وقع الخلاف فيها، فالمؤلف وجمهور أهل الأصول يرون أن الآحاد لا يصح أن ينسخ المتواتر، فالآيات القرآنية لا يمكن أن ننسخها بواسطة السنة الآحادية، وهكذا السنة المتواترة لا تُنسخ بالسنة الآحادية.

واستدلوا على ذلك: بأن المتواتر قطعي، فلا يصح أن نرفعه بواسطة الظني من الآحاد.

وقال طائفة من أهل الأصول بجواز ذلك، قالوا: لأن العبرة في النسخ هو المنسوخ بكونه دليلًا، والآحاد دليلٌ نصيٌّ كالمتواتر فيصح أن يُنسخ به.

وقد يستدلون على ذلك بحديث تحويل القبلة؛ لأنه قد ورد في الخبر أن أهل قباء وهم يصلُّون أتاهم آتٍ، وقال لهم: إن القبلة قد حُوِّلت فتحولوا في أثناء الصلاة.

التوجه إلى بيت المقدس كان متواترًا عندهم، ومع ذلك تركوه بخبر هذا الواحد الذي علموا أو غلب على ظنهم صدقه -رضي الله عنه-، فاستدلوا على جواز ذلك.

وبعض أهل العلم قال: يجوز النسخ -نسخ المتواتر بالآحاد- في زمن النبوة، ولا يجوز بعد ذلك.

إذن: هذا شيء من مباحث النسخ.

نعرض لكم مثال للأخير، وهو: قول الله -عز وجل: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً﴾ [الأنعام: 145]، الآية، فإنه حصر المحرمات في هذه المذكورات، وقد ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم: «نهى عن كلِّ ذي نابٍ من السباع».

فقال طائفة: هذا من نسخ المتواتر بالآحاد.

وقال آخرون: بأن قول: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ أي في ذلك الوقت، لكن قد يوجد محرمات بعد ذلك الوقت الذي نزلت فيه تلك الآية.

نعم..

{شيخنا -أثابك الله- الذي ترجحه من ناحية نسخ المتواتر بالآحاد. ما هو الذي ترجحه؟}.

يسأل أخونا عن نسخ المتواتر بالآحاد، نقول: ظواهر النصوص الشرعية تدلُّ على أن النسخ كما يكون للآيات بالآيات؛ يكون للآيات بالأحاديث، والله -عز وجل- قد قال عن كلام نبيه: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 4]. فإذا كان وحيًا جاز نسخ الآيات القرآنية به.

لعلنا نعرض لبعض الأسئلة.

يقول: قول الله -تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، هل يمكننا أن ندرج الآية تحت المطلق والمقيد؟

نقول: ليس هناك مطلق ولا مقيد؛ لأن هذا من قبيل المجمل والمبيَّن.

يقول: ما الفرق بين النص والظاهر والمجمل؟

- النص: ما لا يحتمل إلا معنًى واحدًا.

- والظاهر: يحتمل معنيين، لكنه في أحدهما أرجح، ما حكمه؟ يجب حمله على المعنى الراجح.

- وأما المجمل: فهو ما لا يتبيَّن المراد منه بنفسه.

ما حكمه؟ يجب أن نتوقف فيه حتى يأتينا دليل يوضح المراد منه.

يقول: ما الضابط الذي يُمَيَّز به أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- هل هي عادة أو على وجه القربة والطاعة؟

الضابط السبب، فننظر إلى سبب الفعل، مثلًا: اتخاذ الخاتم، ما سبب الفعل؟ هو إذا نظرنا إلى سبب الفعل دلَّنا ذلك على نوع الفعل هل هو من قبيل السنة التي هي من القربات، أو هو من العادات.

يقول: كيف نفرِّق ونفهم.. نفس السؤال.

قيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسور الطوال، هل هو من الأفعال الخاصة؟

نقول: ليس هذا من الأفعال الخاصة، وإنما هذا على سبيل الاستحباب، وهو باقٍ للأمة. قال تعالى في وصف المتقين: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: 17].

يقول: أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة.. لا يُحتجَّ بها لأن الوحي لم ينزل عليه بعد، وبالتالي نقول: بأن هذه الأفعال لا يُحتجُّ بها.

ما تعريف المتواتر؟

تقدم معنا أن المتواتر: ما رواه جماعة عن مثلهم يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأن الآحاد: ما لم يكن كذلك.

ما المقصود بالبدل وغير البدل في النسخ؟

نقول: المقصود بالبدل: تبديل محل الحكم بحكم آخر.

لا شك أن الناسخ واقع فعلًا، ولا نقول به إلا بضوابط معينة وضعها العلماء، فما هي هذه الضوابط؟ ثم إن هناك من العلماء من يقول بعدم وجود النسخ وأنه غير واقع، فما حجة هؤلاء؟

تقدَّم معنا أن النصوص الشرعية قد دلَّت على وجود النسخ. قال -تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: 106]، ودلَّ على ذبك عدد من الأحكام التي تمَّ نسخها.

ومثَّلنا له بتغيير القبلة، مثَّلنا له بآية المصابرة، مثَّلنا له بعدد من الأمثلة وهي موجودة وواقعية، ومن يُنكر وجود النسخ إلا أبو مسلم الأصبهاني، ولعله يفسر النسخ بتفسير آخر غير التفسير الذي يقول به الجمهور، وبالتالي لم يتوارد كلامهم على محل واحد.

اسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لخيري الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، كما أسأله -جل وعلا- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا جميلًا.

اللهم يا حي يا قيوم، احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم يا حي يا قيوم ولِّ عليهم خيارهم، واجمع كلمتهم على الحق، واجعلهم محكِّمين لكتابك وسنة نبيِّك.

هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

http://islamacademy.net/cats3.php