الحقوق محفوظة لأصحابها

سعد الشثري
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

أما بعد:

فمرحبًا بكم في اللقاء الثاني من لقاءاتنا في قراءة كتاب الورقات المنسوبة للعلامة الجويني، وقد أخذنا فيما مضى: أهمية هذا العلم، وتعريف أصول الفقه، وأخذنا الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب، والحرام، والمندوب، والمكروه، والمباح.

في لقائنا في هذا اليوم نستكمل الأحكام الشرعية بالكلام عن الأحكام الوضعية.

والمراد بالأحكام الوضعية: هي ما جعله الشارع علمًا معرفًا بالحكم التكليفي.

مثال ذلك: هناك أسباب للأحكام التكليفية، زوال الشمس سبب لوجوب صلاة الظهر، فزوال الشمس هنا جعله الشارع علامة معرفة لوجود الحكم الشرعي التكليفي الذي هو وجوب صلاة الظهر.

وذكر المؤلف من الأحكام الوضعية: الصحيح.

قال بأن الصحيح: ما يُعتدُّ به؛ أي يكون معتبرًا في لسان الشرع، بحيث تترتب عليه آثاره.

وقد مثَّلنا للصحيح بالبيع الذي تكاملت شروطه، ووجد فيه ما أمر الشارع فيه، وانتفت عنه موانعه، فحينئذ تترتب عليه آثاره بحيث يملك المشتري الثمن، ويملك البائع السلعة.

وهكذا في عقد النكاح، متى يكون عقد النكاح صحيحًا؟

إذا ترتبت عليه آثاره.

ما هي آثار عقد النكاح؟

وجوب المهر، جواز الوطء، هكذا أيضًا وجوب النفقة، ثبوت الإرث، فإذا كان العقد -عقد النكاح- صحيحًا؛ ترتبت عليه هذه الآثار، وأما إذا كان عقد النكاح غير صحيح، فإنه لا تترتب عليه هذه الأحكام.

وهكذا في الصلاة والعبادات، متى تكون العبادة صحيحة؟

إذا ترتبت علها آثارها، سواء بثبوت الأجر أو بسقوط القضاء، وأما إذا كانت الصلاة غير صحيحة؛ فإنها لا تسقط القضاء.

ويقابل الصحيحَ الباطلُ، وهو الذي لا تترتب عليه آثاره، الحكم الباطل هو الذي لا تترتب عليه آثاره، ولا يتحقق المقصود منه، ومثَّلنا له بمثال قد يعلق في أذهانكم، ببيعك للعمارة المجاورة لنا وأنت لا تملكها، فهذا عقد باطل، يترتب عليه أنه لا تترتب عليه آثار العقد الصحيح من انتقال المِلك بين البائع والمشتري.

ثم قال المؤلف: (والفقه أخص من العلم).

إذن: عرفنا أن كلمة "أصول الفقه" فيها نحتاج إلى معرفة "أصول"، ونحتاج إلى معرفة "الفقه".

هناك "فقه"، وهناك "علم". قد تعلم بالأشياء لكن لا تفقه حقيقتها.

وحينئذٍ الفقه هو: الفهم الدقيق.

بينما العلم: معرفة الشيء على حسب واقعه.

مثال ذلك: إذا عرفت أن وراء هذا الجدار طريق تمرُّ معه السيارات، هذا علم. لأنك عرفت الشيء المعلوم على حسب ما هو في الواقع.

بينما إذا كنت لا تعرف ما وراء هذا الجدار، فهذا يكون جهلًا، وهذا يسمى: الجهل البسيط.

ما هو الجهل البسيط؟ عدم المعرفة، هذا يسمى جهلا بسيطا.

لكن الجهل المركب: هو أن تعرف الشيء على خلاف ما هو عليه.

مثال ذلك: إذا ظننت أن وراء هذا الجدار بناية من سبعين طابقًا، فهذا جهل مركب، لماذا؟ لأنك لم تعرف ما وراء الجدار وفي نفس الوقت تكوَّنت عندك صورة مخالفة للواقع.

إذن عندنا ثلاث مراتب:

- علم: وهو معرفة المعلوم على ما هو عليه، ولا بد أن يكون مطابقًا للحقيقة والواقع، ولا بد أن يكون جازمًا، ولا بد أن يكون فيه إدراك للنسبة بين شيئين.

- والدرجة الثانية: الجهل البسيط، وهو عدم المعرفة وعدم العلم.

- والدرجة الثالثة: الجهل المركب، وهو معرفة الشيء أو تصور الشيء على خلاف حقيقته.

ولذلك قال المؤلف هنا: (والجهل)، يريد بالجهل هنا: الجهل المركب، هو تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع، هذا أي شيء؟ جهل مركب.

ثم قال: (العلم ينقسم إلى قسمين:

- علم ضروري

- وعلم نظري).

ما هو العلم؟ معرفة المعلوم على الصفة التي توافقه في الخارج، في الواقع، هذا العلم على نوعين:

- علم ضروري، وهو: ما يستفيده الإنسان بدون نظر، بدون دليل.

مثال ذلك: 1+1 كم ينتج؟ لماذا لم تحسبوا؟ احسبوا قبل، نقول: هذا علم ضروري، لا يحتاج إلى استدلال ولا إلى نظر.

السماء في الأعلى أو في الأسفل؟ في الأعلى، لا يحتاج إلى نظر ولا إلى استدلال، فهذا يسمى علم ضروري.

ومثله أيضًا: ما يعلمه الناس بحسب الحواس الخمس، أنتم أمامي، ما الدليل على أنكم أمامي؟ هذا نقول علم ضروري، لا نحتاج فيه إلى استدلال.

ومثله أيضًا: ما يحس بواسطة البصر والشم واللمس والذوق.

وهكذا أيضًا: ما عُرف بالتواتر، ما المراد بالتواتر؟ الأخبار الكثيرة المتظاهرة التي لا يكون هناك توافق بين المخبرين فيها.

إذن ما هو الخبر المتواتر؟ هو خبر جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وسنده إلى أمر محسوس.

هل هناك بلد اسمها الصين؟ زرتموها؟ ما زرتموها، طيب كيف تجزمون بها أو تظنون؟ إذن تواتر الخبر. هذا علم ضروري لأنه أصبح لا تحتاجون فيه إلى استدلال ولا إلى نظر.

النوع الثاني: العلم النظري، وسماه المؤلف هنا "العلم المكتسب"، والصواب أن العلم الضروري والنظري كلاهما مكتسب؛ لأن الله يقول: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ [النحل: 78]، فدل هذا على أن الجميع مكتسب، وكان ينبغي أن يسمى النوع الثاني العلم ماذا؟ النظري، وهو الموقوف على النظر، وهو تقليب الفكر فيما يُنظَر فيه، والاستدلال أي تحصيل الدليل.

لماذا قال المؤلف هنا (المكتسب)؟ لأن بعض أصحاب الفرق يسمون فعل المخلوق "كسبًا"، ولذلك قال هنا (المكتسب).

إذن: النظر هو التفكر في حال المنظور فيه، بينما الاستدلال المراد به طلب الدليل الدال عليه.

ثم قال المؤلف بعد ذلك: (والدليل)؛ لأن هناك مصطلحات يستخدمها علماء الشريعة فنحتاج إلى معرفتها، ومنها هذه المصطلحات، هذه الكلمات: العلم - الجهل - النظري - الاستدلالي - النظر - الاستدلال، وكذلك كلمة: الدليل.

والمراد بالدليل في اللغة: المرشد والعلامة، وواضع العلامة.

وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف: بأن (الدليل هو المرشد إلى المطلوب؛ أي ما يؤدي إلى ما تطلبه)، وهذا في الحقيقة تعريف للشيء بحسب ما يؤدي إليه.

ومن هنا قال بعض أهل العلم: بأن الدليل هو: ما يحصل بالنظر فيه، أو ما يُمكن بالنظر فيه من التوصل إلى مطلوب خبري.

ثم قال: (والظن)، بدأن الآن بمراتب الإدراك، ما هي؟ مراتب الإدراك، عندنا العلم، وذكرنا بأنه: معرفة الشيء على ما هو عليه في الواقع، ولا بد أن يكون جازمًا، ولا يوجد معه مضاد له.

والجمهور يرون أن العلم ليس على رتبة واحدة، لأن الجزم ليس رتبة واحدة، مرة نجزم جزمًا قاطعًا مائة بالمائة، ومرة قد يكون بأقل من ذلك، ولذا طلب إبراهيم -عليه السام- زيادة الطمأنينة.

إذن: هذه المرتبة الأولى من مراتب الإدراك، هي العلم.

المرتبة الثانية: هي مرتبة الظن، بأن يكون عندك احتمالان، لكن أحدهما أقوى من الآخر، فالاحتمال الأقوى هو الظن، الاحتمال الأقوى هو الظن.

ولذا قال المؤلف: (الظن تجويز أمرين أحدهما أظهر - يعني أرجح - من الآخر).

مثال ذلك: لما دخلنا كان هناك شخص بالباب واقف، هل لا زال الشخص واقفًا بالباب؟

نقول: يحتمل أن يكون لا زال واقفًا، ويحتمل أن يكون قد ذهب. أيهما أرجح؟ أن يكون واقفًا، فهنا نظن أنه لا زال موجودًا مع احتمال أن يكون ذلك الشخص قد ذهب، وهذا يسمى ماذا؟ طنًّا، ماذا يسمى؟ الظن.

إذن الظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر.

قد ينقلب الظن في بعض المسائل إلى أن يكون قطعًا.

مثال ذلك: أردتُ أن أتأكد من وجود الشخص فذهبت فرأيته، فحينئذ أصبح قطعًا.

والظن أيضًا على مراتب، ليس على رتبة واحدة.

من أي شيء نستفيد الظن؟ هل هو من صفات النفس؟ أو من الأمور أو الدليل الخارجي؟

نقول: الأصل أنه يُستفاد من الدليل الخارجي، لكن صفات النفس لها تأثير، لها تأثير فيه، لأنك مرات قد ترى الماء فيتخيل في نفسك أنه سراب وليس بماء، فدل هذا على أن صفات النفس لها تأثير.

هل يُعمَل بالظن؟ وهل يُحتجُّ به؟

نقول: نعم، جاءت الأدلة الشرعية بجواز العمل بالظن، قال تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 230]، هذه المرتبة الثانية.

الأولى: العلم.

والثانية: الظن.

المرتبة الثالثة: الشك.

والمراد بالشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.

ذلك الشخص الواقف هناك البعيد، هل هو زيد أو محمد؟ زيد ومحمد كل منهما طويل، وله نفس هذه الصفات، وبالتالي أن تتردد بينهما، ولا يترجح عندك أحد الاحتمالين على الآخر، فهذا ماذا يسمى؟ الشك.

إذن الشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.

هل يقع الشك في الشريعة، وهل يُتعبَّد به؟ نقول: القطع لا شك أنه يُتعبَّد به في الشريعة في مواطن كثيرة.

قال الله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد: 17]، ﴿اعْلَمُوا﴾ هذا جزم، ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ﴾ [الحديد: 20].

وكذلك قد تأتي الشريعة بمشروعية العمل بالظن -كما ذكرنا في الآية السابقة.

ومنه أيضًا: قبول شهادة الشهود يحتمل أن تكون خاطئة أو فيها وهم، ومع ذلك جاءت الشريعة بمشروعية إشهاد الشاهدين، قال تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: 2].

أما الشك، هل يرد في الشريعة؟

نقول: الشك قد يكون مناطًا للأحكام بحيث.. تقول الشريعة: إذا وجد الشك عندك فالحكم كذا.

ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى، ثلاثًا أو أربعة، فليطرح الشك وليبنِ على ما استيقن».

فحينئذ جُعل الشك مناط وعلة للحكم، لكن لا تأتي الشريعة للمكلفين وتقول لهم: شُكّوا في هذه الأمور.

والشك هل هو حكم؟ بعض أهل العلم قال: الشك ليس بإدراك.

إذن عندنا الآن ثلاثة مراتب من مراتب الإدراك، ما هي؟

- العلم.

- والظن

- والشك.

الاحتمال المقابل للاحتمال الراجح بعض أهل العلم يسميه: وهمًا، وبعضهم يسميه: احتمالًا.

انتقل وجاء المؤلف بعد هذا وقال، وعرف أصول الفقه، فقال: (وأصول الفقه طرقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها).

طرقه: يعني الأدلة الدالة على الفقه، طرقه: يعني الأدلة والهاء تعود على الفقه، كأنه قال: الأدلة الدالة على الفقه على سبيل الإجمال، لأن الأدلة على نوعين:

- أدلة تفصيلية.

- وأدلة إجمالية.

مثال هذا: قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 43]، هذا دليل تفصيلي، يتعلق بحكم؟ دليل تفصيلي يتعلق بحكم واحد.

لكن حجية القرآن هذا دليل إجمالي يشمل أدلة تفصيلية كثيرة.

فرَّقنا بين الدليل الإجمالي والدليل التفصيلي.

إذن الدليل التفصيلي هو: الدليل الوارد في مسألة بعينها، هذا يسمى دليل تفصيلي.

الدليل الإجمالي أو الكُلِّي: هو الذي يشمل أدلة كثيرة متعددة، واضح لنا الفرق بين الدليل الإجمال والدليل التفصيلي؟

القرآن حجة، هذا دليل إجمالي، السنة حجة، قول الصحابي حجة، هذا دليل إجمالي.

الأمر يفيد الوجوب، هذا دليل إجمالي، لأنه يشمل صورًا كثيرة.

لكن ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 43]، هذا دليل تفصيلي يتعلق بمسألة واحدة، وهي وجوب الصلاة، لكن حجية القرآن هذا دليل إجمالي.

إذن: نحن في أصول الفقه نعتني بالأدلة الإجمالية، أما الأدلة التفصيلية فلا نبحثها في هذا العلم.

قال: (وكيفية الاستدلال بها).

يعني كيف نفهم الدليل الشرعي، وكيف نستدل به، مما يتعلق بقواعد الاستنباط.

قال: (ومعنى قولنا: كيفية الاستدلال بها، هو: ترتيب الأدلة).

في الترتيب والتقديم والتأخير، وما يتبع ذلك من أحكام في الترتيب والتقديم والتأخير. هذا معنى قولنا: كيفية الاستدلال، يدخل فيها لو تعارضت الأدلة، كيف نعمل؟

كذلك من أجزاء هذا العلم: ما يتعلق بأحكام المجتهدين، المجتهد هو: الذي يتمكن من استخراج الأحكام من الأدلة، وما هي أحكام؟ هل هو مصيب أو مخطئ؟ وهل هو مأجور أو غير مأجور؟ ومَن الذي يجوز له الاجتهاد ومَن الذي لا يجوز له الاجتهاد؟ هذا كلها من مباحث هذا العلم.

وبذلك نعرف أن هذا العلم فيه عدد من أنواع المباحث:

أولها: الأدلة الإجمالية.

ثانيها: كيفية الاستدلال بالأدلة، التي نسميها قواعد الفهم والاستنباط، هل مفهوم المخالفة حجة أو لا؟

النوع الثالث: ما يتعلق بأحكام المجتهدين وما يقابلهم.

ذكر المؤلف بعد ذلك تفاصيل الأبواب.

إذن: قسَّم العلم هذا إلى ثلاثة أقسام:

1- الأدلة الإجمالية.

2- قواعد الاستنباط.

3- أحكام المجتهدين ومَن يقابلهم.

هذا في التقسيمات الثلاث يندرج تحتها أقسام كثيرة، منها:

- أقسام الكلام.

- ومنها مباحث الأمر.

- ومنها مباحث النهي.

- ومنها المبحث العام.

- ومنها المبحث الخاص.

- ومنها مبحث المجمل، والمبين، والظاهر، والمؤول، والأفعال، والناسخ والمنسوخ، والإجماع، والأخبار، والقياس، والحظر والإباحة، وترتيب الأدلة، وصفة المفتي والمستفتي، وأحكام المجتهدين.

هذا تفاصيل الأبواب، وسنأتي إليها، هذه ذكرها المؤلف في مقدمة هذه الرسالة بمثابة فهرس للمسائل التي ستأتي معنا في هذا الكتاب.

قال المؤلف: (أقسام الكلام)، ما هو الكلام؟

الصواب: أن المراد بالكلام هو الأصوات والحروف، ولذلك قال ابن مالك:

كلامُنَا لَفْظٌ مُفيـدٌ

......................

إذن: الكلام هو ذات الألفاظ، وليس هو المعاني النفسية، ولذا قيل لمريم -عليها السلام-: ﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ [مريم: 26]، فهنا نفت مع أنها أشارت إليهم ووقع في نفسها مَعانٍ نفسية، إلا أنه أمرها بأن تنفي الكلام عن نفسها.

ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدَّثت بها أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم»، فدل هذا على أن الكلام شيء وأن أحاديث النفس شيء آخر.

ويدل على هذا أيضًا قوله -عز وجل-: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ﴾ [التوبة: 6]، فدل هذا على أن المسموع هو ذات الكلام.

قال المؤلف: (أقل ما يتركب الكلام منه: اسمان).

لأننا نقول: بأن الكلام هو الألفاظ المفيدة، لا يشترط فيها الجمع، وقد يكفي فيها لفظتان، وحينئذٍ إذا وُجدَ اسمان يمكن أن يكون كلامًا.

مثال ذلك: إذا قلت: خالد واقف. هنا خالد كلمة، وواقف كلمة، كلاهما اسم، فتكوَّنت منها الجملة.

ويدلك على أن الجويني لم يسر على منهج أولئك الذين فسروا الكلام بالمعاني النفسية؛ لأنه قال: (فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان)، فدل هذا على أنه يرى أن الكلام هو الألفاظ، وليس الكلام هو المعاني النفسية.

إذن أقل ما يتركب منه الكلام اسمان، (أو اسم وفعل).

مثال ذلك: إذا قلت: ذهب خالد، كتب عليّ، فهم محمد، فهذه كلمتان، اسم وفعل، تكون منها الكلام، أصبح جملة كاملة لها معناها.

قال: (أو اسم وحرف)، يعني قد يوجد اسم وحرف، هذا يكون شبه الجملة.

مثال لذلك: إذا قلت: في البيت، هنا "في" حرف، والبيت اسم. وحينئذ لا بد من تقدير، كأنك قلت: هو موجود في البيت.

قال: (أو حرف وفعل). مثال ذلك لو قلت: ضربه، هكذا يمثل بعضهم على ذلك، والهاء هنا ضمير وبمثابة من الأسماء؛ لأن الضمائر عند أهل اللغة أسماء.

ومن هنا تعرف أن قول الأصوليين: حرف واسم، وحرف وفعل، قد يريدون به الضمير الذي يعتبره النحاة من الأسماء، وبعض الأصوليين قد يسميه حرفًا.

إذن: ذكر المؤلف أقل ما يتركب منه الكلام.

ثم بعد ذلك بدأ يقسِّم الكلام بتقسيمات متعددة:

التقسيم الأول قال: (ينقسم الكلام إلى قسمين: إنشاء وخبر).

الخبر مثاله قولك: محمد واقف. هذا خبر، يمكن أن تصدقه ويمكن أن تكذبه، هذا يسمى خبر.

يقابل الخبرَ الإنشاء، الذي لا يمكن أن تقابله بالتصديق أو التكذيب، كما لو قلت لك: هل محمد موجود؟ هل يصح أن تقول: كذبتَ أو صدقتَ؟ لا يصح، فحينئذ هذا ليس خبرًا، وإنما هو من الإنشاء، يسمى: استخبار.

وهناك الأوامر، كما لو قلت لكم: اكتبوا الدرس. هنا "اكتبوا" هذا فعل أمر.

"لا تتحدثوا حتى تستأذنوا"، "لا تتحدثوا" هذا ماذا؟ إنشاء، هذا نهي.

إذن: "اكتبوا" هذا فعل أمر من الإنشاء، "ولا تتحدثوا" هذا نهي من الإنشاء.

قال: (وينقسم أيضًا إلى...) يعني ينقسم الكلام بتقسيم آخر إلى (تمنٍ)، وهذا أيضًا من أقسام الإنشاء.

مثال ذلك: لو قلتم: "نرجو أو عسى أن نعرف علم الأصول لنتمكن من فهم الكتاب والسنة"، فهذا تمن.

وهكذا أيضًا يوجد العرض، والمراد بالعرض: الطلب من الغير بدون أن يكون هناك إلزام، ولا استعلاء، كما لو قال الشخص لصاحبه: "ألا تزورنا".

قال: (ومن وجه آخر ينقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز)، هذا تقسيم آخر من تقسيمات الكلام، ينقسم إلى حقيقة ومجاز.

التقسيم السابق إلى أمر ونهي لوحظ فيه المعنى، بحيث هل يُقابَل بالتصديق أو التكذيب أو لا.

وأما انقسام الكلام إلى حقيقة ومجاز فهذا لوحظ فيه استعمال اللفظ، هل هو موافق للمعنى الذي وضع له؟ أو أنه استُعمِلَ في وضع أو في معنًى آخر غير ما وُضعَ له.

الحقيقة يُراد بها: استعمال اللفظ فيما وُضِعَ له، مثال ذلك لو قلت: الأسد حيوان مفترس، فهنا المراد بكلمة "الأسد" الحيوان المعروف وهو المعنى الذي وُضع له لفظ الأسد.

فالحقيقة: هي ما بقي في الاستعمال على موضوعه.

بعض أهل العلم يقول: الحقيقة: استعمال اللفظ فيما وُضِع له، وبعضهم يقول: الحقيقة: هو اللفظ المستعمل فيما وُضِع له.

وقال: (وقيل في تعريف الحقيقة بأنه ما استُعمِلَ فيما اصطُلِح عليه من المخاطبة).

ما الفرق بين هذا المنهج وهذا المهج؟

هناك حقيقة لغوية لا إشكال فيها، لكن هل يوجد حقيقة شرعية أو لا يوجد حقيقة شرعية؟

بعض أهل العلم يقول: هناك حقيقة شرعية، بحيث جاءنا الشرع باستعمال اللفظ في أحد المعاني، فإذا استُعمل هذا اللفظ في ذلك المعنى كان حقيقة شرعية.

مثال ذلك: لفظة "الصلاة"، أو لفظة "الصيام" في لغة العرب هي الإمساك، لكننا وجدنا الشرع استعمل لفظة "الصيام" في ترك الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فهذه حقيقة شرعية.

بعض أهل العلم قال: بما أن الاستعمال الشرعي مغاير للاستعمال اللغوي، أو للحقيقة اللغوية، نجعل هذا حقيقة الشريعة.

وبعض أهل العلم قال: لا. هذا أسميه مجازًا، ليس من الحقيقة، لأن الحقيقة هي موافقة الوضع اللغوي.

والمؤلف اختار هذا المنهج الثاني، ولذا قال: (فالحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه، وقيل..) هذا تضعيف للقول الآخر (ما استُعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة). ولذلك عند الجمهور يقسمون الحقيقة إلى:

- حقيقة لغوية.

- وحقيقة شرعية.

- وحقيقة عرفية.

سواء تعارف عليها أهل فن من الفنون، أو أهل بلد، أو أهل مهنة، أو نحو ذلك.

والقول بأن الحقيقة يقتصر على الحقيقة اللغوية فقط، هذا قد سار عليها بعض أهل العلم، ومن أوائل من قال بهذا القول الباقلاني، وتبعه عليه جماعة.

إذن هذا كله في الحقيقة، يقابل الحقيقةَ المجازُ. وهو: استعمال اللفظ في غير ما وضِعَ له، استعمال اللفظ في معنى مغاير للمعنى الذي وضع له في اللغة.

مثال ذلك: لو قلتُ: رأيت أسدًا يخطب. فحينئذ أنا لا أريد الحيوان المفترس، وإنما أريد الرجل الشجاع، هذا يسمى مجازًا، استعمال اللفظ في غير ما وضع له هذا يسمى مجازًا.

إذن هذا المثال أظنه واضح.

جمهور الأصوليين والنحاة واللغويين على تقسيم الكلام إلى حقيقة وإلى مجاز، قالوا: وجدنا العرب يستعملون بعض الألفاظ في غير ما وضعت له.

ذهب بعض الأصوليين وأهل اللغة إلى نفي وجود المجاز في لغة العرب، وقالوا: بأن العرب لا تتلكم بالكلمة المفردة، إذا قالوا: "أسد" وأرادوا به الرجل الشجاع لا بد أن يكون معه قرينة تدل على أن المراد المعنى الآخر، ولذا قلنا: "أسدًا يخطب".

إذا قال: "رأيت أسدًا يخطب" فحينئذ لا يمكن أن نفهم أن المراد به الحيوان المفترس، بل نعرف أن المراد به هو الرجل الشجاع. فقالوا: بأن العرب لا تتكلم بالكلمة المفردة، وإنما تتكلم بالجمل الكاملة.

ولذلك إذا قال: "له عليّ عشرة إلا ثلاثة" ما الحكم القضائي في حقه؟ نوجب عليه كم؟ سبعة، ما نقول عشرة ثم يُرجِّع ثلاثة، لأننا ننظر إلى الجملة متكاملة.

هكذا أيضًا قالوا: بأننا ننظر إلى الجمل كاملة، ولا ننظر إلى الكلمات المفردة.

ولذلك قد تأتي العرب بكلمة واحدة وتستعملها في معاني متعددة ويحدد السياق المعنى من ذلك اللفظ.

مثال ذلك: لفظة "قال" ما المراد بها؟ نام القيلولة أو تكلم؟ نقول: ننظر إلى سياق الكلام. ولذلك لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما لي وللدنيا، إنما أنا راكب أستظل تحت شجرة -أو قال: تحت شجرة-»، فدل هذا على أن السياق له دلالته وتأثيره على الكلام.

قسَّم المؤلف الحقيقة إلى:

- لغوية، ومثلنا لذلك بكلمة "الأسد" عندما تستعمل في الحيوان المفترس.

- وشرعية، وهي: الألفاظ التي استعملها الشارع بمعنى مغاير للمعنى اللغوي سواء كان بالنقل أو بالتقييد أو بالتخصيص.

والباقلاني وتبعه جماعة نفوا أن يكون هناك حقيقة شرعية، وقالوا: إن إثبات الحقيقة الشرعية يجعلنا ننفي صفة العربية عن القرآن والسنة، القرآن والسنة عربية. وهذا الكلام فيه ما فيه، لأننا نجد أن القرآن والسنة قد استخدما بعض الألفاظ اللغوية في بعض مدلولاتها.

- والقسم الثالث: هو الحقيقة العرفية، وهي التي تعارف الناس فيها على معنى.

مثال ذلك: لفظة "سيارة" أصبحنا نطلقها على هذه الآلة التي نركبها وننتقل بها. أما العرب لم يكونوا يستعملون هذا اللفظ في هذه الآلة، لأنهم لم يعرفوا هذه الآلة، وكانوا يستعملون لفظة السيارة في القافلة -كما ورد في قصة يوسف -عليه السلام-

فاستعمال لفظة السيارة في هذه الآلة الحديثة ماذا نسميه؟ حقيقة عرفية، بمجرد أن أطلق عليك هذه الكلمة كلمة "سيارة" تفهم منها هذه الآلة.

ثم قال المؤلف: (أنواع المجاز) وقسم المجاز إلى تقسيمات. قال: (المجاز قد يكون بزيادة)، بحيث نأتي بحرف يستغني الكلام من جهة النحو عنه، وقد يمثلون له بقوله: ﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ﴾ [يس: 30]، كلمة "من" يقولون هذه زيادة.

وقد استشكل كثير من العلماء والمفسرين أن يُطلَق على شيء من القرآن كلمة زيادة، لأن هذه اللفظة "من" لها معان، ووصف الشيء بأنه زائد قد يُشعر أنه لا معنى لوجوده وأن ذكره كعدمه، وهذا زيادة بالنسبة للنظر النحوي، أما بالنسبة للمعنى فلا شك أن هذا اللفظ لم يأتِ إلا لزيادة في المعنى، ولذلك هذا تأكيد لعمومية هذه القضية، ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الحجر: 11]، فهذا تأكيد لهذه القضية وأنها شملت جميع الأفراد.

كذلك قد يأتي..، ومثَّل المؤلف في هذا بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، وقد قال بعضُ بأن الكاف زائدة، والمراد: ليس مثله شيء.

ولكن كما تقدم أن الكاف هنا لإثبات وجود شبيه المثل، أو لنفي وجود شبيه المثل، وهو أعظم في التنزيه.

وقد يكون المجاز بواسطة النقص بحيث تُحذف بعض الألفاظ وتُفهم من السياق، ومثلوا له بقوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: 93]، هل دخل العجل في قلوبهم بذاته؟ وإنما المراد: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، فهنا حذفت كلمة "الحب" من أجل أنها معروفة، أو لأنه لزيادة التأكيد والمعنى.

ومثله ما مثَّل له المؤلف هنا ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: 82]، في قصة يوسف لما قالوا لأبيهم ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾، القرية هل يمكن سؤالها؟ ستذهب للبيوت وتسألها: يا أيها البيت هل ما ذكروه صحيح؟ وإنما تسأل أهل القرية، فإذن القرية هنا يُراد بالقرية في الأصل المباني، والسؤال لا يمكن أن يكون للمباني، فدل هذا على أن المراد أهل القرية.

وكما تقدم أن طائفة من أهل العلم ينفي وجود المجاز، ولذلك يقولون: بأن هذه استعمالات عربية وجدت معها قرينة؛ فدلت على أن المراد ليس سؤال المباني، والقرائن لها تأثير على الكلام، ثم إن "القرية" لا تطلق على المبنى وحده، لو وجد مباني ليس فيها أحد ما يقال لها قرية، وإنما يقال له "أطلال" أو نحو ذلك، ولا يطلق اسم "القرية" إلا على المباني المسكونة التي فيها ناس، فهو يطلق على مجموع الأمرين.

النوع الثالث من أنواع المجاز التي ذكرها المؤلف: المجاز بالنقل، بأن يستعمل اللفظ في معنًى آخر غير ما وضع له، ومثلنا له بكلمة "الأسد"، فإنها في الأصل تستعمل في الحيوان المعروف المفترس، ثم بعد ذلك نقلها العرب واستعملوها في الرجل الشجاع.

كذلك في كلمة "الغائط"، الغائط في لغة العرب: المنخفض من الأرض، ثم بعد ذلك أصبحوا يطلقون كلمة "الغائط" على الخارج النجس، لما أطلقتم عليه اسم "الغائط"؟ قالوا: لأنه في الغالب يُخرج في المنخفض من الأرض، فحينئذ هذا يقال له: مجاز بنوع النقل.

وقد يُمثَّل له بكلمة "الظعينة" فإنها في الأصل يُراد بها الجمل، ثم أطلقت كلمة "الظعينة" على المرأة لأنها عند الأسفار تلازم جملها.

النوع الرابع من أنواع المجاز: المجاز بالاستعارة، تعرفون العارية، كأننا استعرنا اللفظ ونقلناه في مكان آخر.

وقد مثَّل له المؤلف بقول الله -عز وجل-: ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ [الكهف: 77]، ما معنى "الإرادة" ؟ الاختيار، أليس كذلك؟

هل الجدار يختار؟ وهل الجدار يريد؟ إذن هنا استُعمل لفظ "يريد" في معنى آخر، وهو: الشروع والابتداء في السقوط، ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾، يعني ابتدأ بالسقوط، وهذا يقول له: مجاز بالاستعارة.

ومن مثله: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أحدكم أن يدخل فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث»، «فإذا أردا أحدكم» ما هو معناه رغب أو قصد، وإنما المعنى: إذا ابتدأ وشرع، وإلا فإن الإنسان قد يريد دخول الحمام قبل دخوله بساعة، ولا يشرع له أن يقول هذا الذكر، لا يشرع له أن يقول هذا الذكر إلا إذا ابتدأ بدخول مواطن قضاء الحاجة.

انتقل المؤلف بعد ذلك إلى الكلام عن نوع آخر من أنواع الكلام وهو: الأمر.

والمراد بالأمر: الطلب للفعل، مثال ذلك: لو قال الوالد لولده: "اكتب الدرس"، فهذا طلب.

لو قال الوالد لولده: "أحضر الماء"، هذا طلب.

إذن ما هو المراد بالأمر؟ الأمر: استدعاء، أي طلب الفعل بالقول ممن هو دونه. استدعاء، أي طلب الفعل بواسطة الأقوال ويكون المتكلم أعلى، لكن لو كان متساويين -الطالب والمطلوب- فهذا لا يسمى أمرًا؛ وإنما يسمى التماسًا.

تقول لزميلك: "لو سمحت أعطني القلم"، "أعطني" هنا طلب، ولكنه ليس من الأعلى، فيكون التماسًا.

وقد يكون دعاءً، كما تقول: "اللهم اغفر لي"، "اغفر" طلب، لكنه ليس على جهة الاستعلاء، ومن تمَّ لا يكون أمرً وإنما يكون دعاءً.

وبعض أهل العلم يقول: على جهة الاستعلاء؛ لأن مَن هو أدنى قد يأمر مَن هو أعلى منه فيُوبَّخ، ولذلك إذا قال الابن لأبيه: "أحضر لي كذا" على جهة الاستعلاء والأمر، لذا؛ لا يصح منك أن تأمر أباك، هذا عيب عليك.

قال: (استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب) يعني على سبيل الحتم.

وكلمة "على سبيل الوجوب" هذه لا داعي لها، لأن الطلب بمجرده يكون أمرًا، ولو لم يكن على سبيل الوجوب، لأنه هو يفيد الوجوب، ولماذا قال المؤلف هنا (على سبيل الوجوب)؟ سار على طريقة بعضهم ممن يقول بأن صيغة "افعل" لا تدل على الأمر بنفسها حتى يوجد معها إرادة الإلزام والوجوب.

والصواب: عدم اشتراط هذا الأمر، بل يكون أمرًا ولو كان المتكلم يعلم أن مَن توجه إليه الطلب لن ينفذ ما أمر به وطلبه.

قال المؤلف: (وصيغته) يعني الصيغة الدالة على الأوامر (افعل)، فهو كأنه يقول بأن صيغة "افعل" تدل على المر بنفسها ولو لم يوجد معها قرينة، ولا تُصرف عن الأمر إلى غيره إلا بقرينة، وهذا هو قول جماهير أهل العلم خلافًا لبعض الأشاعرة.

الأشاعرة يقولون بأن الأمر هو المعاني النفسية، والصيغة تدل عليه وليست صيغة له، وهذا كلام باطل وبطلانه له أدلة كثيرة. فالمؤلف لم يسر على طريقة الأشاعرة في هذا الباب.

قال: (وصيغته) يعني صيغة الأمر، (افعل)، مثل.. مَن يُمثِّل؟ ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [الحج: 78]، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، إلى غير ذلك، هذه كلها صيغ أوامر.

كذلك هناك صيغ أخرى للأمر، مثل: الفعل المضارع المسبوق بلام الأمر، مثل قوله -عز وجل: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]، ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ [الطلاق: 7].

هناك أيضًا: اسم الأمر، وهناك من مثل قوله -عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ [آل عمران: 97].

قال: (وهي) يعني أن هذه الصيغ (تدل بنفسها على الأوامر)، (وهي) يعني صيغة "افعل"، (عند الإطلاق) أي عند عدم وجود قرائن، (والتجرد عن القرينة)، فإنها تحمل على الأمر، وسواء كان هذا في مسائل الأحكام، أو كان هذا في الآداب، يعني النصوص الشرعية الواردة بأن الأوامر تفيد الوجوب عامة ليس فيها تخصيص، ومن مثل قوله -عز وجل: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].

﴿عَنْ أَمْرِهِ﴾ يشمل الأوامر في الآداب، ويشمل الأوامر في الأحكام.

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36]، ﴿أَمْرًا﴾ هنا نكرة في سياق النفي فتكون عامة في الآداب، في الأحكام، في غيرها.

وقد وجد إجماع من الصحابة على أن الأوامر تفيد الوجوب ولم تفرق بين باب وباب آخر، ثم لا يوجد فاصل يفصل بينما ما هو آداب وبين ما هو أحكام، فكل الشريعة آداب وأحكام.

نسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين.

كما نسأله -سبحانه وتعالى- للجميع التوفيق لخيري الدنيا والآخرة.

هل هناك أسئلة؟ هل هناك اتصالات من الخارج؟ فالموقع عندي عطلان، أسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لخيري الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

أحد منكم عنده سؤال عما مضى؟ إخواني أعطه لاقط الصوت، نعم.

{أحسن الله إليكم.. بالنسبة للظن، قلنا في البداية أنه من مراتب الإدراك، شهادة الشهود عند القاضي في المحكمة هل هي ظن؟}.

نعم، شهادة الشهود والنية، يعني القاضي لا يجزم بأن ما تكلم به الشهود حقيقة وصحيح، وحينئذ هو يُجوِّز أمرين:

- أن يكونوا صادقين

- وأن يكونوا كاذبين.

لكن احتمال الصدق أعظم من وأعلى وأرجح من احتمال الكذب، هذا يكون من باب الظن.

نعم، فيه أسئلة أخرى؟ واضح.

إذن: أخذنا اليوم ما يتعلق بالأحكام الوضعية، الصحي والباطل، وأخذنا تقسيمات على الأصول، وأخذنا عددًا من الأبواب.

ثم أخذنا الكلام، وحقيقة الكلام، وأقل ما يتركب منه الكلام.

ثم قسمنا الكلام بتقسيمات متعددة، منها تقسيمه إلى إنشاء وخبر، ومنها تقسيمه إلى حقيقة ومجاز، وأخذنا أحكام كلٍ، والخلاف في كلٍ، ثم أخذنا ما يتعلق بمباحث الأمر.

ولعلنا -إن شاء الله تعالى- نقوم باستكمال هذه المباحث في لقائنا القادم، بودي أن يكون هناك تحضير للأبواب القادمة قبل أن نبتدئ، ماذا يفيد الأمر؟ وماذا يدخل فيه، وماذا يخرج منه؟ والنهي وأحكامه، والعام والخاص.

هذه -إن شاء الله سنتكلم عنها في لقائنا القادم في يوم الأربعاء.

أسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لخيري الدنيا والآخرة، كما أسأله -جل وعلا- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا جميلًا، اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم ألف بين قلوبهم.

اللهم يا حي يا قيوم نسألك أن تغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات برحمتك يا أرحم الراحمين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

http://islamacademy.net/cats3.php