الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي
مقدمة :

السلام عليكم ورحمة الله ، أيها الأخوة والأخوات أسعد الله أوقاتكم بكل خير ، وأهلاً بكم في لقاء جديد في برنامج : "الإسلام منهج حياة" .

ضيف البرنامج هو فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، الداعية الإسلامي ـ حفظه الله ـ أهلاً بكم فضيلة الدكتور .

الدكتور راتب :

بكم أستاذ جميل جزاك الله خيراً .

الأستاذ جميل :

دكتور ، هنالك من الأمراض والأوجاع ما يعزى سببه إلى النفس ، ومن الأمراض ما يكون أشد فتكاً وإيلاماً من الأمراض العضوية ، فهل لنا أن نتناول جانب الطب النفسي وعلاج الشرع لهذا الأمر ؟.

الإنسان عقل وقلب وجسم والقلب هو مركز النفس :

الدكتور راتب :

بسم الله الرحمن الرحيم ، أستاذ جميل ، كلما تقدم الطب اكتشف أن هناك أمراضاً يزداد عددها يوماً بعد يوم ، تعزى أسبابها إلى حالة نفسية متردية ، فالإنسان عقل وقلب وجسم ، فالقلب مركز النفس ، فإذا كان هناك انهيار نفسي ، قلق مزمن ، خوف ، حقد ، هذه كلها لها منعكسات عضوية ، لأن الإنسان كلٌّ لا يتجزأ ، فإذا تراجعت نفسه وانهارت وعانت ما عانت فلا بدّ أن ينعكس هذا على الجسم .

أذكر أن مريضاً ذهب إلى بريطانيا لإجراء عملية قلب ، دخلت ممرضة لتنسيق الأزهار ، سألته دون أن تهتم بالإجابة : من طبيبك ؟ فقال لها : فلان ، قالت له : هذا الطبيب مستحيل أن يقبل ليس لديه وقت ، قال لها : لقد اتفق معي اتفاقاً قطعياً ، قالت له : هذا الطبيب أجرى عشرة آلاف عملية لم يخطئ في واحدة ، رأى في الفاتورة مبلغاً لرفع المعنويات قامت به هذه الممرضة ، فمعنى ذلك أن معنويات المريض تعينه على الشفاء ، والمعنويات المنهارة تعينه على المرض .

الأسباب النفسية وراء معظم الأمراض العضوية :

إذاً : يمكن أن يكون هناك طب نفسي ، فالخوف ، والقلق ، والحقد ، واليأس ، والإحباط ، هذه حالات نفسية صعبة جداً ، لها منعكسات جسمية ، فكلما تقدم الطب اكتشف أن هناك أسباباً نفسية تكون وراء معظم هذه الأمراض ، لذلك .

﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا ﴾

( سورة آل عمران الآية : 151)

فالرعب أحد أسباب الأمراض .

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾

( سورة الشعراء )

الأستاذ جميل :

إذاً هي أخلاق مذمومة شرعاً تورث أمراضاً نفسية ؟.

المؤمن حينما يوحد الله ويستقيم على أمره يعيش حياة نفسية رائعة جداً تنعكس صحة :

الدكتور راتب :

طبعاً ، بالمناسبة حيث ما جاءت كلمة إنسان معرفة بأل في القرآن الكريم تعني الإنسان قبل .

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾

( سورة المعارج )

معنى هذا أن هناك أزمات نفسية طاحنة ، هناك حالات نفسية متردية جداً ، بسبب القلق ، والخوف ، والرعب ، واليأس ، والإحباط .

فالمؤمن حينما يوحد الله عز وجل ، ويستقيم على أمره ، ويصطلح معه ،عاش حياة نفسية رائعة جداً ، هذه تنعكس صحة ، تنعكس انخفاض ضغط ، تنعكس انتظام في ضربات القلب ، هناك حالات نفسية لها منعكسات عضوية .

الأستاذ جميل :

إذاً علامَ يرتكز الطب النفسي في الإسلام ؟ .

ارتكاز الطب النفسي في الإسلام على التوحيد :

الدكتور راتب :

والله أنا أرى ـ وهذا اجتهاد شخصي مني ـ أن الطب النفسي يرتكز على التوحيد ، فما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، أنت إذا أمنت بالله خالقاً ، ومربياً ، ومسيراً آمنت :

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾

( سورة الزخرف الآية : 84 )

آمنت أنه :

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

( سورة هود الآية : 123 )

آمنت أنه :

﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾

( سورة الزمر )

حقائق في التوحيد تعين على الصحة النفسية التي هي وراء صحة الجسد :

إذا آمنت أنه يحكم وحده :

﴿ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾

( سورة الرعد الآية : 41 )

وأنه :

﴿ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

( سورة الكهف )

إذا أمنت أنه :

﴿ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ﴾

( سورة غافر الآية : 20 )

أمنت أنه :

﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

( سورة هود )

أنك إذا أمنت :

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ﴾

( سورة فاطر الآية : 2 )

إذا أمنت أن :

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

( سورة الرعد الآية : 11 )

إذا أمنت أنه :

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾

( سورة النحل الآية : 97 )

إذا أمنت :

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

( سورة الجاثية )

هذه كلها حقائق في التوحيد يمكن أن تعين على الصحة النفسية التي هي وراء صحة الجسد .

من لا يندم على ما فات ولا يخشى مما هو آت يحقق السلامة والسعادة لنفسه :

الله عز وجل يقول :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾

( سورة فصلت الآية : 30 )

أستاذ جميل ،

﴿ أَلَّا تَخَافُوا ﴾

متعلقة بالمستقبل ،

﴿ وَلَا تَحْزَنُوا ﴾

متعلقة بالماضي ، فأنت حينما تصطلح مع الله وتستقيم على أمره ضمنت المستقبل .

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾

( سورة التوبة الآية : 51 )

من عطاء وخير ، وضمنت الماضي أنك لن تندم على شيء فاتك ، يروى أن سيدنا الصديق ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط ، لذلك هذا الذي لا يندم على ما فات ، ولا يخشى مما هو آت ، حقق سلامة وسعادة كبيرة جداً .

الأحوال النفسية الراقية كلها تنعكس صحة على الجسم :

الحقيقة :

(( مَن شَغَلَهُ قراءةُ القرآن عن مسألتي أعطيتُهُ أفضلَ مَا أُعْطِي السائلين ))

[أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري ]

هذا الإيمان يملأ النفس شعوراً بالأمن ، قال تعالى :

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ﴾

( سورة الأنعام )

لم يقل أولئك الأمن لهم ، إن قال الأمن لهم ولغيرهم ، أما :

﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ﴾

لهم وحدهم :

﴿ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

( سورة الأنعام )

فلذلك قصية التوحيد ، قضية الصلح مع الله ، قضية الاستقامة على أمر الله ، قضية الإقبال على الله صحة ، الصحة بمعنى أنها تحقق سعادة نفسية ، وتوازناً ، وتماسكاً ، وصموداً ، وثقة ، وتفاؤلاً ، الأحوال النفسية الراقية كلها تنعكس صحة على الجسم .

الأستاذ جميل :

إذاً المرتكز الأقوى هو العلاج النفسي ، الطب النفسي ، والمرتكز الأقوى هو الإيمان بالله عز وجل .

الإيمان بالله وطاعته المرتكز الأول في الطب النفسي :

الدكتور راتب :

نعم ، المرتكز الأول في الطب النفسي الإيمان بالله وطاعته ، فالإنسان حينما يصلح من الداخل ، تصلح أعضاؤه من الخارج ، قالوا : إن ضغط الدم هو ضغط الهم ، المشكلة أن هناك ما يسمى بالسلامة ، وهناك ما يسمى بالأمن ، السلامة عدم وقوع مصيبة ، لكن لا يعني عدم وقوع مصيبة أن الإنسان آمن ، لأنه توقع المصيبة مصيبة أكبر منها ، وكما قلت سابقاً : أنت من خوف المرض في مرض ، أنت من خوف الفقر في فقر ، فلذلك الأمن غير السلامة ، الأمن عدم توقع المصيبة ، ما الذي يدعوك ألا تتوقع المصيبة ؟ قول الله عز وجل :

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ﴾

الله عز وجل طمأنك ، قال :

﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾

( سورة طه )

لا يضل عقله ولا تشقى نفسه .

﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾

( سورة البقرة )

لا يندمون على ما مضى ، ولا يحزنون لما سيأتي ، فالحالة النفسية الناتجة عن الإيمان ، والطاعة ، والصلح مع الله ، والإقبال على الله ، ومحبة الله عز وجل ، هذه حالة مسعدة وراء الصحة الجيدة ، فلذلك الجسم كله يأتمر بخارج الجسم ، جهاز المناعة المكتسب تسيطر عليه القيادة ، و لكن القيادة لا تزال مجهولة ، هذه القيادة تقوي هذا الجهاز بالحب ، والود ، والرحمة ، وتضعف هذا الجهاز بالحقد ، والكراهية ، فالحقد والكراهية مرض ، أمراض الجسم الناتجة عن حالات النفس الصعبة لا تعد ولا تحصى ، أنا أقول دائماً : الإيمان صحة بالمعنى المادي ، والتوحيد صحة ، وأن ترى أن الأمور كلها بيد الله ، وأن علاقتك مع جهة واحدة .

ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد :

النقطة الدقيقة جداً في الموضوع قال تعالى :

﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ﴾

على لسان سيدنا هود :

﴿ ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

( سورة هود )

الموضوع أن هناك وحوشاً مخيفة ، لكنها مربوطة بأزمة محكمة ، بيد جهة قوية رحيمة ، عادلة ، محبة ، أنا علاقتي ليست مع الوحوش ، علاقتي مع من يملك أزمتها ، فإذا كنت على علاقة طيبة معه أبعدها عني ، فإذا ساءت علاقتي معه يسمح لهذه الوحوش أن تصل إليّ .

هذا ملخص الملخص ، لذلك قالوا : ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، الحديث عن الصحة المتعلقة بالصحة النفسية حديث ذو شجون ، الآن هناك من يقول : الذين يرتادون العيادات النفسية 150% بمعنى أن 100% يرتادون ، ونصفهم يرتاده مرة ثانية ، بسبب وضع العالم المتفجر ، العالم متقدم تقدماً مذهلاً تقنياً ، لكنه متخلف تخلفاً مذهلاً أخلاقياً واجتماعياً .

فالإنسان كان عنده رحمة وعطف ووفاء وحب ، الآن عنده مصالح ، كان يوجد قيم الآن مصالح ، كان هناك مبادئ الآن حاجات ، فلذلك حينما يسقط الإنسان يسقط مع سقوطه فتضعف نفسه ، ومع ضعف نفسه يضعف جسمه .

الشرك الناتج عن ضعف الإيمان وراء تفاقم الأمراض النفسية :

لذلك قالوا : إن الله يعطي الصحة ، والذكاء ، والمال ، والجمال ، للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين ، أنا متأكد من أن صحة المؤمن تتميز عن صحة العاصي ،

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

أستاذ جميل دقق ،

﴿ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ ﴾

في حياتهم الدنيا ، حتى في صحتهم ، حتى في علاقاتهم ، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح ، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟.

والله الذي قال : لو يعلم الملوك ما نحن عليه من السعادة لقاتلونا عليها بالسيوف .

الشرك الناتج عن ضعف الإيمان ، الشرك الخفي .

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾

( سورة يوسف )

الشرك الناتج عن ضعف الإيمان وراء تفاقم الأمراض النفسية ، والتي بدورها تعين على تفاقم الأمراض العضوية .

خاتمة و توديع :

الأستاذ جميل :

جزاكم الله خيراً فضيلة الدكتور وأحسن إليكم ، شكرا لكم أيها الأخوة ، على حسن متابعتكم ، ونترككم في أمان الله وحفظه .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

والحمد لله رب العالمين