الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي
التفسير المطول - سورة التوبة 009 - الدرس ( 39-70 ) : تفسير الآيات 53 - 54 ، ضعف الإخلاص يبطل العمل.

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2011-02-11

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

العبرة في العمل الصالح أن يقبله الله عز وجل :

أيها الأخوة الكرام، مع الدرس التاسع والثلاثين من دروس سورة التوبة، ومع الآية الثالثة والخمسين وهي قوله تعالى:

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

أيها الأخوة، العبرة في العمل الصالح أن يقبله الله عز وجل، قد يعمل المرء أعمالاً كالجبال، كمال الخلق يدل على كمال التصرف، لم تقبل لا قيمة لها.

(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))

[أخرجه ابن ماجه عن ثوبان بن بجدد ]

((من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بسائر عمله شيئاً))

[ مسند الشهاب عن أنس]

من علامات إخلاص المؤمن أن سره كجهره، وأن باطنه كظاهره، وأنه في خلوته كما هو جلوته، ثبات المؤمن على طاعة الله وحده ومع الناس، في خلوته وفي جلوته، في سره وعلانيته، وفي باطنه وظاهره، أما أن يكون للإنسان موقف مع نفسه وموقف مع الناس فهذه ازدواجية تضعف قيمة عمله، المؤمن واضح، واضح جداً.

الإخلاص أهم شيء في العمل :

لذلك أيها الأخوة، أهم شيء في العمل الإخلاص، بالإخلاص ينفع كثير العمل وقليله، ومن دون إخلاص لا ينفع لا كثيره ولا قليله، والإخلاص ملخص الطاعة، أنت إذا كنت مخلصاً توجهت بهذا العمل إلى الله، ولا تعبأ بزيد ولا بعبيد، ولا ترضي فلاناً ولا علاناً.

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان ]

وأروع ما في حياة المؤمن أنه مخلص، والذي يميز المنافق عدم إخلاصه.

﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[ سورة البقرة]

دائماً أيها الأخوة ينبغي أن نحاسب أنفسنا هل هناك رياء في أعمالنا؟ هل نعمل عملاً أمام الناس غير العمل الذي نعمله وحدنا؟ هل هذا العمل إذا صعد إلى الله عز وجل هل يقبله الله عز وجل؟ المشكلة أن الذي يضعف إخلاصه يرد عمله، هذا الجهد الكبير والاهتمام البالغ من دون إخلاص لا يقدم ولا يؤخر، والآية مرة ثانية:

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾

[ سورة الفرقان]

أحياناً تدعو إنساناً إلى طعام، قد يأتي إلى خاطرك أن تظهر له براعة أهلك في الطبخ، أو غناك، أنواع منوعة، هذا الطعام بهذه النية فقد قيمته، بنية إكرام المؤمن، إطعامه إذا كان جائعاً، حل مشكلته إذا كان فقيراً، هذا عمل طيب.

كلما ارتقى العمل كان الإخلاص ثمرة لهذا الرقي :

لذلك المؤمن يتعاهد نفسه، يراقب عمله، وكلما ارتقى العمل كان الإخلاص ثمرة لهذا الرقي، أو كلما كان الإخلاص في العمل كان الإخلاص سبباً لرقي هذا العمل.

هؤلاء الصحابة الكرام الذين وصلت راياتهم إلى أطراف الدنيا ما هو أكثر شيء في حياتهم؟ الإخلاص، والإخلاص يثمر المحبة، أنت حينما تخلص في عملك ترى أخاك في الدين أخاً حقيقياً، تحبه، تقدم له، تنصحه، تعينه، أما إذا كان هناك إخلاص ضعيف فضعف الإخلاص ينتج عنه تدابر، تباغض، تباعد، والذين آمنوا قدوتهم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فالحب الذي كان بينهم يفوق حدّ الخيال، والتناصح بينهم أيضاً يفوق حدّ الخيال، وتواضعهم لبعضهم بعضاً يفوق حدّ الخيال، مجتمع المؤمنين مجتمع له خصائص، أهم خصيصة في هذا المجتمع أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، يتعاونون، يتناصحون، يتحابون، يتبادلون النصائح، تنصحه وينصحك، تعينه ويعينك، تدافع عنه ويدافع عنك، لذلك الآية الكريمة:

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ﴾

العمل قيمته بما وراءه من إخلاص، أما إذا كان هناك رياء في أداء العمل ترائي به الناس، أو تخفي شيئاً وتظهر شيئاً كان النفاق، والنفاق في بعض الآيات إن المنافقون:

﴿ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾

[ سورة النساء الآية: 151]

والمنافق في بعض الحالات كافر، لكنه غطى نفسه بمظاهر الإيمان الخارجية، كي ينال من خصائص المؤمنين ما لم يناله لو كان كافراً:

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ﴾

الإخلاص أساسه التوحيد :

أخواننا الكرام، الأعمال التي كلفنا الله بها لا تقبل إلا بالإخلاص، والإخلاص أساسه التوحيد، لو أردت أن تسأل ما طريق الإخلاص؟ هو التوحيد، فكل موحد مخلص، وكل مخلص ما كان مخلصاً إلا لأنه كان موحداً، معنى التوحيد؛ ما من إله إلا الله، لا معطي إلا الله، لا مانع إلا الله، لا رافع إلا الله، لا خافض إلا الله، لا معز إلا الله، لا مذل إلا الله.

وسيدنا عمر يقول: تعاهد قلبك، أنت إذا قمت بعمل، هذا الذي تقوم به هل تبتغي به ثناء الناس عليك؟ لكن شيء طبيعي إذا كان عملك صالحاً الناس سوف يثنون عليك هذا بفضل الله عليك، إذا أحبك الناس هذا فضل من الله، حتى إن بعض العلماء قالوا بقوله تعالى:

﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾

[ سورة طه الآية: 39]

المؤمن الله عز وجل من باب التكريم يلقي محبته في قلوب الخلق، أن تكون محبوباً هذا فضل من الله، أما أن تكتفي برضاء الناس عليك ولا تعبأ برضاء الله عز وجل فهذا نوع من النفاق.

آيات التوحيد :

لذلك من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله برضى الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، الأصل أنك تعبد إلهاً واحداً.

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

[ سورة هود الآية: 123]

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف]

﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾

[ سورة الأعراف الآية: 54 ]

﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾

[ سورة الأعراف الآية: 158]

حبذا إذا قرأت القرآن أن تتقصى آيات التوحيد، واعتقد يقيناً أن الإيمان في حقيقته هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، التوحيد ألا ترى مع الله أحداً، تقرأ قوله تعالى فيقشعر جلدك:

﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾

[ سورة الفتح الآية: 10]

ألا ترى مع الله أحداً، ألا ترى فاعلاً إلا الله، ألا ترى معطياً إلا الله، ألا ترى مانعاً إلا الله، ألا ترى رافعاً إلا الله، ألا ترى خافضاً إلا الله، هذا هو التوحيد، والتوحيد أصل هذا الدين، بل إن ديننا دين التوحيد، الإنسان حينما يتوجه إلى الله وحده استراح من هموم كالجبال، اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها، أخلص لله يكفك الوجوه كلها، من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها.

العلاقة الوثيقة بين الإخلاص و التوحيد :

أحد أسباب قوة شخصية المؤمن أنه لا يستجدي المديح من الناس، يرضي الله وكفى، وشعاره دائماً: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، والأحاديث كثيرة جداً تصف المخلصين بقوتهم، وبقوة شخصيتهم، وببراءتهم من كل أنواع النفاق، المخلص لا ينافق.

والحقيقة هناك علاقة وشيجة جداً بين الإخلاص والتوحيد، كلما ارتقى توحيدك ارتقى إخلاصك، وكلما ارتقى إخلاصك ارتقى توحيدك، التوحيد ألا ترى مع الله أحد، ألا ترى يداً تعمل مع الله، فلذلك تعامل الناس بأدب جم، وتأخذ وتعطي لكن الآمال منعقدة على الله عز وجل.

والقصة طويلة، الطالب، التاجر، الموظف، المزارع، حينما يوحد ترتاح نفسه، حينما يوحد يستقيم عمله، حينما يوحد تقوى شخصيته، حينما يوحد يصل إلى الله:

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ﴾

أحياناً تدعو الناس إلى بيتك اسأل نفسك سؤلاً محرجاً: لماذا دعوتهم؟ عندك بيت فخم جداً، تريد أن يروا ما عندك؟ هذه مشكلة، عندك مال وفير تريد أن تري من حولك حجمك المالي؟ لكن أحياناً تريد أن تكرم المؤمن، هذا هدف مشروع ونبيل، قبل العمل، في أثناء العمل، بعد العمل، راقب نفسك، الهدف أرضي أم سماوي؟ الهدف أن أفتخر أم أقدم عملاً لله عز وجل؟ تابع أمورك، راقب نفسك، ولا تحابي نفسك، معظم الناس يحابون أنفسهم في هذا الموضوع، يصف إخلاصه وصفاً عجيباً، ولكن في الحقيقة قد يكون في الإخلاص ضعف، بأمور الإخلاص لا تحابي نفسك، شدد عليها، لماذا فعلتِ كذا؟ لماذا قلتِ كذا؟ أحياناً الإنسان يميل إلى مدح نفسه، أحياناً المديح كي تكون قدوة لغيرك، تشجعهم أنك باستقامتك على أمر الله أكرمك الله، جيد، فرق كبير بين أن تبين لهم إكرام الله للمؤمن وبين أن تزهو عليهم.

أعرف أخوة كراماً إن أرادوا أن ينفعوا الناس بقصة جرت معهم فيها إكرام من الله لا ينسبون هذا إلى ذاتهم، يقول لك: عندي صديق فعل كذا وقد أكرمه الله بكذا، والحقيقة هو نفسه الإكرام كان له، لئلا تأتي نفسه وتوبخه على أنه يفتخر ينسب هذا إلى غيره، سمعت عن إنسان فعل كذا وكذا.

استجداء المديح علامة ضعف الإخلاص :

أيها الأخوة، المخلص الإنسان ليس بحاجة إلى أن يستجدي المديح، وأنا أستخدم كلمة بدقة هناك من يستجدي المديح، أحياناً يدعوك إلى بيته إذا بقيت ساكتاً لم تثنِ على هذا البيت هو يسألك هل أعجبك البيت؟ يدعوك إلى طعام، فإن لم تثنِ على الطعام يستفزك، الطعام إن شاء الله جيد؟ يريد أن يستجدي المديح، كلما زلت قدمك إلى استجداء المديح كان هذا علامة على ضعف إخلاصك، المؤمن يعبد الله، المؤمن يخلص في عمله، المؤمن يبتغي وجه الله، ولا تأخذه بالله لومة لائم.

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

الفاسق هو العاصي، لكن كأن هناك علاقة متينة بين القيام بالعبادات وبين الاستقامة على أمر الله، بإمكانك أن تقوم بعبادة، لكن هذه العبادة لا يقبلها الله عز وجل إلا بالإخلاص، والإخلاص تتناقض معه سلوكيات كثيرة، مديح الذات، الاستعلاء، الظهور، حب الظهور، هذا كله يؤدي إلى ضعف العمل الصالح بضعف إخلاصك.

الحقيقة أحد الصحابة سأل النبي عليه الصلاة والسلام:

(( قلت: يا رسول الله ماذا ينجي العبد من النار ؟قال: الإيمان بالله، قلت: يا رسول الله إن مع الإيمان عملاً، قال: يرضخ مما رزقه الله، قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان فقيراً لا يجد ما يرضخ به؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قلت: يا رسول الله ، أرأيت إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟قال : يصنع الأخرق. قلت: أرأيت إن كان أخرقاً لا يستطيع أن يصنع شيئاً؟ قال : يعين مظلوماً، قلت: أرأيت إن كان ضعيفاً لا يستطيع أن يعين مظلوماً؟ قال: ما تريد أن تترك في صاحبك من خير؟‍! ليمسك أذاه عن الناس، فقلت: يا رسول الله إذا فعل ذلك دخل الجنة؟ قال: ما من مؤمن يطلب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة))

[ البيهقي عن أبي ذر]

بمعنى أن العمل صالح يقود إلى عمل صالح أكثر، عندنا بالفيزياء مبدأ العطالة، هذا القانون معناه أن الجسم الساكن يرفض الحركة، والمتحرك يرفض السكون، لمَ وضع الحزام في السيارات؟ لأنك إذا كنت تركب سيارة وأوقفتها بالمكبح جسمك يرفض الوقوف يبقى مندفعاً نحو الأمام، وقد يكون هذا الإيقاف المفاجئ سبب موت الراكب، لذلك وضعوا له الحزام، الجسم المتحرك يرفض السكون، والساكن يرفض الحركة، هذا مبدأ العطالة.

لذلك الإنسان إذا كان له عمل يصعب أن يوقف هذا العمل، وإذا ترك العمل الصالح يصعب أن يفعله، عود نفسك على العمل الصالح.

العمل الذي يقبله الله عز وجل هو العمل الذي يكون خالصاً وصواباً :

أيها الأخوة:

((إن الله طيِّب، لا يقبلُ إلا طيباً ))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة]

ما العمل الذي يقبله الله؟ في بعض الآيات تبين أن العمل الذي يقبله الله عز وجل يجب أن يكون خالصاً وصواباً، فسرت هاتان الكلمتان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي بهذا العمل وجه الله، وصواباً ما وافق السنة، وكلا الشرطين لازم غير كافٍ، لو أن العمل صواب لكن ابتغي به أمر دنيوي هذا العمل لا يقبل، لو أن العمل فيه إخلاص ولم يوافق السنة، لا يقبل، فالعمل الذي يقبله الله عز وجل هو العمل الذي يكون خالصاً وصواباً، والدليل قوله تعالى:

﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾

[ سورة النمل الآية: 19]

العمل لا يسمى صالحاً إلا إذا ابتغى به صاحبه وجه الله، والعمل لا يسمى صالحاً إلا إذا تطابق مع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة.

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

ويبدو أن العمل الصالح الذي يقبله الله عز وجل يجب أن تكون أرضيته الاستقامة، الاستقامة أصل، كيف أن هناك أشياء بالجهاز تعد هيكلاً عظمياً له، البناء فيه هيكل إسمنتي، الآن يكسى بالدهان، والبلاط، والنوافذ، والأبواب، الأصل أن الهيكل العظمي سليم.

والإخلاص بالعمل، الإخلاص كالهيكل العظمي، فالعمل من دون إخلاص لا يعبأ الله به،

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾

الأعمال الصالحة إن رافقتها استقامة على أمر الله فهذه الأعمال ترقى بالإنسان إلى الله :

مرة ثانية:

(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))

[أخرجه ابن ماجه عن ثوبان بن بجدد ]

هذا يعني أن المؤمن كما قلت قبل قليل: سريرته كعلانيته، وباطنه كظاهره، وخلوته كجلوته، لا يوجد عنده ازدواجية بالشخصية، واضح، عدم تقبل العمل لضعف إخلاصه، وأحد أسباب ضعف الإخلاص أن هذا العمل الصالح رافقته معاص كثيرة:

﴿ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

الفسق المعصية، فالإنسان إذا خرج عن طاعة الله، وله أعمال صالحة، الله سبحانه وتعالى يعطيه جزاءه في الدنيا على هذا العمل الذي فعله بالدنيا ولم يكن مستقيماً، ما أحسن عبد من مؤمن أو كافر إلا وقع أجره على الله في الدنيا أو في الآخرة، إنسان قد يعمل عملاً إرضاء للناس ينال رضاء الناس، كافأه الله عليه بإرضاء الناس، لكنك إذا عملت عملاً تبتغي به وجه الله أكرمك الله في الدنيا والآخرة معاً.

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

هذا الذي أتمناه أن الأخ له درس عمل، يؤدي الصلوات، يصوم رمضان، يحج بيت الله الحرام، يؤدي زكاة ماله، الاستقامة في العلاقات الاجتماعية، الاستقامة في كسب الأموال، وفي إنفاق الأموال، الاستقامة في البيت، الاستقامة في العمل، الاستقامة في زواجه، الاستقامة في تربية أولاده، إذا رافقت أعماله الصالحة استقامة على أمر الله هذا العمل يرقى به إلى الله.

الاستقامة و العمل الصالح :

أما الخطأ مع العمل الصالح، فالعمل قد ينال عند الله مكافأة في الدنيا، لكن لا يكون هذا العمل سبيلاً لكسب رضى الله عز وجل.

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْؤهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

بشكل أو بآخر الفسق أن تخرج كما تفسق التمرة، التمرة لها قشرة، أحياناً تمسك التمرة وتضغطها فالتمرة تخرج من دون قشرة في بعض الحالات، نقول: فسقت التمرة، والإنسان الشرع حصن له، فإذا خرج من هذا الحصن فسق.

أولاً: الإنسان يعلم حدود الله بفطرته، ويعلمها أيضاً بالتعلم، فأنت حينما تحضر درس علم تعرف الحلال والحرام، والخير والشر، وما ينبغي وما لا ينبغي، هذه المعرفة سبب كبير جداً لاستقامتك على أمر الله.

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

للتوضيح: طريق إلى الله، المعاصي التي يرتكبها الإنسان كأنها عقبات في هذا الطريق، هذه العقبات كأداء، تحول بينه وبين السير إلى الله، ماذا تعني التوبة؟ أن تزيح هذه العقبات عن الطريق إلى الله، هذه الاستقامة، كل معصية تعد عقبة في الطريق إلى الله، فإذا استقمت على أمر الله، وتبت توبة نصوحة، كأنك أزلت هذه العقبات من طريقك إلى الله، بعد أن تزيلها هل يكفي؟ أنت مستقيم لكنك غير متحرك، أنت ساكن، الاستقامة تضمن لك السلامة، أنت ما كذبت، ما غششت، ما خنت، ما اقترفت معصية، كله جيد، هذه تضمن لك السلامة.

تماماً كطالب ما ضرب زملاءه، ولا أساء إليهم، ولا قسا عليهم بالكلمات، لكن ما درس، المدرسة فيها انضباط، فيها دراسة، فيها شيء سلبي، وشيء إيجابي، المستقيم أدى الشيء الإيجابي بالإسلام، ما كذب، ما غش، ما خان، شيء جيد جداً، لكن لا يكفي، لو أن الطالب لم يدرس وآخر السنة لم ينجح، يقول: أنا والله ما آذيت الطلاب، طبعاً ما آذيتهم، ولا كذبت عليهم، لكنك ما درست، نريد عملاً إيجابياً، وبالإسلام هناك استقامة، وهناك عمل صالح، الاستقامة سلبية، والعمل الصالح إيجابي.

الاستقامة والعمل الصالح إذا اجتمعا تفرقا وإن تفرقا اجتمعا :

لذلك أقول لكم دائماً: إذا ذكرت الاستقامة وحدها تعني الاستقامة والعمل الصالح، وإذا ذكر العمل الصالح وحده يعني الاستقامة والعمل الصالح، أما إذا ذُكرت الاستقامة والعمل الصالح فكل شيء يعني شيء، الاستقامة امتناع، والعمل الصالح عطاء، أي إذا اجتمعا تفرقا، وإن تفرقا اجتمعا، إذا ذكرت الاستقامة وحدها فتعني الانضباط السلبي، والعمل الصالح الإيجابي، وإذا قلت: العمل الصالح وحده أي الانضباط السلبي والعطاء الإيجابي، أما إذا ذكرت الاستقامة والعمل الصالح فالاستقامة لها معنى والعمل الصالح له معنى.

بشكل أو بآخر هذا الدين العظيم يمكن أن يضغط بأربع كلمات، أن تعرف الله، وأن تتصل به، وأن تستقيم على أمره، وأن تتقرب إليه بالعمل الصالح.

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

مرة ثالثة:

(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))

[أخرجه ابن ماجه عن ثوبان بن بجدد ]

هذا يعني أنه لا يوجد بحياة المؤمن ظاهر وباطن، جلوة وخلوة، علانية وسر، وضعه موحد.

العبادات نوعان؛ عبادات شعائرية و عبادات تعاملية :

الآن:

﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾

[ سورة التوبة]

أخواننا الكرام هناك معنى دقيق جداً وأقول خطير:

﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾

هناك استنباط خطير جداً، قد تجد إنساناً يصلي لكنه ما عرف الله، صلى وأكل مالاً حرماً، صلى وغش في البيع، صلى واعتدى على أعراض الآخرين، هذا الذي لا يعرف الله عباداته لا وزن لها إطلاقاً، ولا يستطيع أن يقطف ثمارها إطلاقاً.

فالعبادات نوعان؛ عبادات شعائرية، كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وعبادات تعاملية، فإذا أدى العبادة الشعائرية ولم يكن مستقيماً لا ينجو من عذاب الله، والدليل أن العبادات الشعائرية كالصلاة، والصوم، والحج، لا تقطف ثمارها، إلا إذا صحت العبادة التعاملية، والأدلة كثيرة.

العبادات الشعائرية لا تقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية :

النبي عليه الصلاة والسلام سأل أصحابه الكرام:

((أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم يُطْرَحُ في النار))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة]

شيء واضح جداً، هذه الصلاة، الصيام:

(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ))

[أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة]

حديث آخر:

((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش))

[أخرجه الحاكم عن أبي هريرة]

هذا الصيام، الزكاة:

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

الحج:

(( من حج بمال حرام فقال: لبيك اللهم لبيك ، قال الله له: لا لبيك ولا سعديك حجك مردود عليك))

[الأصبهاني في الترغيب عن أسلم مولى عمر بن الخطاب ]

الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، عبادات شعائرية لا تقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادات التعاملية، والعبادات التعاملية جاءت في كلام قاله سيدنا جعفر للنجاشي، سيدنا جعفر هاجر إلى الحبشة مع نفر من أصحاب رسول الله، والملك النجاشي سألهم عن الإسلام، قال سيدنا جعفر:

(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقة، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار ))

[أخرجه الإمام أحمد عن أم سلمة أم المؤمنين ]

هذه العبادات التعاملية، والكلام الفيصل العبادات الشعائرية لا تقطف ثمارها عند الله إلا إذا صحت العبادات التعاملية، لذلك:

(( ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام))

[ورد في الأثر]

(( والله لأن أمشي مع أخ في حاجته، خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا ))

[ الطبراني عن ابن عمر ]

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ﴾

أي ما عرفوا الله، وما عرفوا رسوله، لذلك خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.

﴿ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾

والحمد لله رب العالمين

http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=9010&id=97&sid=101&ssid=257&sssid=258