الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي
التفسير المطول - سورة التوبة 009 - الدرس ( 35-70 ) : تفسير الآيات 41 - 42 ، المسارعة إلى الجهاد، اليقظة قبل فوات الأوان.

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2011-01-14

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

على الإنسان أن ينفر في سبيل الله بأي حال كان :

أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الخامس والثلاثين من دروس سورة التوبة، ومع الآية الواحدة والأربعين وهي قوله تعالى:

﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

أيها الأخوة، أما معنى قوله تعالى:

﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾

أي أيها المؤمنون سارعوا إلى الجهاد في سبيل الله، لكن بأية حال أنتم؟

﴿ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾

قال: خفافاً من السلاح، وثقالاً مع السلاح، أي معكم سلاح أو لا يوجد معكم، خفافاً من السلاح، أو ثقالاً معكم سلاح، خفافاً ركباناً، وثقالاً مشاة، إن كنتم ركباناً فانفروا، وإن كنتم مشاة فانفروا، مشاة أو ركباناً، مسلحين أو من دون سلاح، خفافاً شباباً -الشاب نشيط- أو شيوخاً ثقالاً، الشيخ حركته بطيئة، بسلاح أو من دون سلاح، راكب أو ماشي، شاب أو شيخ، هزيل أو سمين، إذا الإنسان كان رشيقاً ونحيلاً كانت حركته سهلة، والذي عنده وزن حركته أصعب، أيضاً

﴿ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾

أيها الأخوة، لابد من أن تنفر في سبيل الله بأية حال أنت، أقول لكم هذا مع التوسع أي أنت لا بدّ من أن تسعى إلى مرضاة الله، فقير، غني، صحيح، مريض، طالب علم، غير طالب، تعمل في التجارة، تعمل في الصناعة، متقاعد، بأية حالة أنت ينبغي أن تسعى إلى مرضاة الله، لأن هذا العمل مصيري، معنى مصيري أي متعلق بسعادتك الأبدية، هناك أعمال لا تقدم ولا تؤخر، الإنسان ينجح من السابع إلى الثامن، من الثامن إلى التاسع، من التاسع إلى العاشر، لكن مجموع علاماته في الشهادة الثانوية تحدد مصيره، هناك مجموع تصبح من خلاله طبيباً، إن كان أقل طبيب أسنان، أقل هندسة، أقل صيدلة، أقل بمعمل معين، مجموع العلامات مثلاً نسميه مصيري، يحدد حرفتك بالدنيا، كطالب علم و لا يوجد عندك أموال ورثتها عن أبيك، لابد من أن تدرس، فالدراسة مجموع علاماتك تحدد مصيرك، للتقريب.

كذلك قضية النفور إلى الله، أن تسعى إلى مرضاة الله، أن تطلب العلم، أن تطلب العمل الصالح، أن تسعى إلى عمل يرقى بك عند الله، أن تسعى إلى علم ينور بصيرتك، الإنسان أحياناً يعيش حياة لا يرقى بها إلى مستوى الإنسان.

الإنسان حينما قبِل حمل الأمانة كان أفضل المخلوقات :

كلكم يعلم أن الجماد شيء، يشغل حيزاً، وله وزن، وله ثلاثة أبعاد، هذا الجماد، لكن النبات أيضاً شيء، يشغل حيزاً في الفراغ ، وله وزن، وله ثلاثة أبعاد، لكنه ينمو، فرق النبات عن الجماد أنه ينمو، الحيوان شيء يشغل حيزاً في الفراغ، وله وزن، وله ثلاثة أبعاد، وهو ينمو كالنبات، ويضاف إلى نموه أنه يتحرك، الحصان يمشي، الإنسان شيء يشغل حيزاً في الفراغ ، وله وزن، وينمو كالنبات، ويتحرك كبقية المخلوقات، لكنه يفكر، فإن لم يفكر، إن لم يبحث عن الحقيقة، إن لم يلبِ الحاجة العليا في الإنسان، هبط عن مستوى إنسانيته، إلى مستوى لا يليق به.

ينبغي أن تعرف من أنت، أنت حينما قبلت حمل الأمانة في عالم الأزل في قوله تعالى:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾

[ سورة الأحزاب الآية: 72]

أنت حينما قبلت حمل الأمانة كنت أفضل المخلوقات جميعاً، من هنا سيدنا علي رضي الله عنه يقول:" ركب الملك من عقل بلا شهوة، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل، وركب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان".

من آمن و شكر حقق الهدف من وجوده :

أيها الأخوة، يجب أن تعرف من أنت، أنت المخلوق الأول لأنك قبِلت حمل الأمانة في عالم الأزل، ولما قبلت حمل الأمانة سخر الله لك أيها الإنسان:

﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾

[ سورة الجاثية الآية: 13]

تسخير تعريف، وتسخير تكريم، هذا الكون يعرفك من هو الله، هذا الكون مظهر لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، هذا الكون يشف عن كمال الله، يشف عن وحدانية الله، يشف عن وجود الله، هذا الكون هو الثابت الأول، سخره لك تسخير تعريف، تسخير التعريف يقتضي أن تؤمن به، وسخره لك أيضاً تسخير تكريم، وتسخير التكريم يقتضي أن تشكره، دقق الآن فإذا آمنت به، وشكرته، حققت الهدف من وجودك، وإذا حققت الهدف من وجودك تتوقف فجأة كل المعالجات الإلهية، والدليل قوله تعالى:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ﴾

[ سورة النساء الآية: 147]

تسخير التعريف يقتضي منك أن تؤمن، وتسخير التكريم يقتضي منك أن تشكر، فإذا آمنت أو شكرت حققت الهدف من وجودك.

عبادة الله عز وجل علة وجود الإنسان في الدنيا :

أنت قد تسأل لو سافرت إلى بلد أجنبي ببعثة رسمية كي تنال الدكتوراه، وأنت في هذا البلد، وليكن باريس، مدينة عملاقة كبيرة، مترامية الأطراف، فيها المعامل، فيها المصانع، فيها الجامعات، فيها المدارس، فيها الحدائق، فيها المؤسسات، فيها النوادي الليلية، فيها دور اللهو، أنت كطالب لك في هذه المدينة الكبيرة العملاقة هدف واحد، هذا الهدف الواحد نسميه اصطلاحاً علة وجودك، علة وجودك في هذه المدينة نيل الدكتوراه، ليس لك علاقة بالمعامل، ولا بالمسارح، ولا بالحدائق، ولا بالمشكلات، ولا بالسجون، علة وجودك فقط في هذه المدينة أن تنال هذه الشهادة، قس على ذلك، وعلة وجودك في الدنيا أن تعبد الله، قال تعالى بآية قطعية الدلالة:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات]

العبادة طاعة، خضوع لمنهج الله، هي طاعة لكن هذه الطاعة ليست قسرية، لأن الأقوياء يطاعون قسراً.

الله عز وجل أراد أن تكون العلاقة به علاقة حب لا علاقة إجبار أو قسر :

لكن الله جلّ في علاه ما أراد من عباده أن يطيعوه قسراً، أراد أن يطيعوه اختياراً، فقال:

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 256]

أرادك أن تأتيه طائعاً، أراد أن تأتيه محباً، أراد أن تأتيه مختاراً، أراد أن تأتيه بمبادرة منك، أراد أن تأتيه محباً، لذلك

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

بل أراد أن تكون العلاقة به علاقة حب قال:

﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾

[ سورة المائدة الآية: 54]

إذاً هذا معنى دقيق، علة وجودك في الدنيا أن تعبد الله، والعبادة طاعة لكنها طوعية ممزوجة بمحبة قلبية، فما عبد الله من أطاعه ولم يحبه، وما عبد الله من أحبه ولم يطعه، أساسها معرفة يقينية تنتهي إلى سعادة أبدية، هناك جانب معرفي، وجانب سلوكي، وجانب جمالي.

مثل للتوضيح: لو إنسان دخل للبيت، وجد الماء في كل غرف البيت، وقد أفسدت هذه المياه الأثاث، فانطلق مسرعاً يبحث عن من يصلح التمديدات، وهو في طريقه للبحث عن إنسان يحل هذه المشكلة، قد يجد في محل شيء جميل، أو قطعة جميلة، أو آلة دقيقة، هو لا يرى شيئاً هو يبحث عن إنسان لإصلاح الخلل الذي أصاب أثاث البيت، هذه الحالة تشبه حالة مؤمن فرّ إلى الله، هدفه أن يعرف الله، هدفه عمل صالح يتقرب به إلى الله، هدفه أن يطلب العلم، هدفه أن يرقى عند الله، كلما كان الهدف كبيراً، والصدق في طلبه عالياً، هذا الهدف الكبير لا يرى أي شيء آخر، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون]

من يعرف الله يسعى إليه و يطيعه :

اللغو ما سوى الله، لا يوجد عنده وقت للقيل والقال، وإضاعة المال، لا يوجد عنده سهرة فارغة، كلام فارغ، مزاح رخيص، لقاء تقليدي لا يقدم ولا يؤخر، لا يوجد عنده وقت لسقطات الناس، لمجالسهم التي تنتهي بالغيبة والنميمة.

(( ما من قوم يقومون من مَجلس لا يَذكرونَ اللهَ فيه إِلا قاموا عن مثلِ جيفة حمارٍ ))

[أخرجه أبو داود عن أبي هريرة]

((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، ويذكرون الله تعالى، إِلا تنزَّلت عليهم السَّكينةُ، وغشيتهم الرحمةُ، وحفَّتْهم الملائكةُ، وذكرهم الله فيمن عندَه ))

[أخرجه مسلم والترمذي والنسائي عن معاوية بن أبي سفيان ]

أنت حينما تعرف الله تسعى إليه، وإذا سعيت إليه لا ترى شيئاً آخر إطلاقاً، بل الأشياء كلها تُقيّمها بمدى ارتباطها بهذا الهدف، هدفك واحد أن تعرف الله، أن تطيعه، أن تعبده، أن تدعو إليه، تختار حرفة تعينك على هذا الهدف، تختار بيتاً قريباً من المسجد يعينك على الهدف، تصاحب أصدقاء ترقى بهم عند الله، فعندما يكون الهدف واضحاً الجزئيات تنبع من هذا الهدف.

الهدف الواضح يلهم الإنسان إلى وسائل تعينه على بلوغه :

أخواننا الكرام، الشيء الدقيق أن الله حينما قال:

﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[ سورة الملك]

هناك إنسان يمشي هدفه واضح، الهدف الواضح يلهمك إلى وسائل تعينك على بلوغه، أما إنسان بلا هدف، وهذه مشكلة كبيرة جداً، الناس يعيشون لا يشعر أحدهم أن هناك هدفاً أمامه، لا تجد كلمة تعبر عن إدراك لهدفه إطلاقاً، يعيش بلا هدف، يأكل ويشرب ويستمتع بالحياة، ويهمه ما يهم عامة الناس، يسعى إلى ما يسعى إليه عامة الناس، لا يوجد عنده شيء واضح، مركز، هدف واضح.

مرة ثانية: طالب ذهب إلى بلد أجنبي ليدرس، الهدف واضح جداً –دراسة- فأي صديق يعينه على التكلم باللغة الأجنبية يصاحبه، أي كتاب يعمق له فهمه باختصاصه يشتريه، أي لقاء يثمر قوة في اختصاصه يسعى إليه، الهدف واضح، الوسائل تنبع من هذا الهدف.

أنا كل الذي أتمناه في هذا الدرس إن شاء الله أن يتضح الهدف، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، الآن زواجك، اختيار حرفتك، عملك، وقت فراغك، تربية أولادك، حركتك، حتى أوقات فراغك كيف تمضيها؟ إما في عمل، أو في شيء يقويك، ويقوي إيمانك، ويقوي اتصالك بالله عز وجل.

كلمة

﴿ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾

من إعجاز القرآن الكريم :

لذلك هذا معنى قوله تعالى:

﴿ انْفِرُوا خِفَافاً ﴾

نشيطين، أو

﴿ ثِقَالاً ﴾

متباطئين، لكن انفروا، شاب أول حياته، إنسان متقدم بالسن، هذا خفيف، وهذا ثقيل، انفروا لقلة عيالكم، لا يوجد عنده أولاد

﴿ خِفَافاً ﴾

انفروا

﴿ ثِقَالاً ﴾

عندكم أولاد، انفروا شباباً، انفروا شيوخاً، انفروا راكبين، انفروا مشاة، انفروا بسلاح أو من دون سلاح، انفروا في مقتبل العمر أو في مؤخرة العمر، هذا الكلام

﴿ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾

جامع مانع، وهذا من إعجاز القرآن الكريم، كلمة

﴿ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾

ينضوي تحتها مئات المعاني، أي انفروا في كل حال.

﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾

[ سورة آل عمران الآية: 191]

هناك ثلاث حالات، إما أنك واقف، أو مضجع، أو جالس، لا يوجد حالة رابعة، إذا قال الله عز وجل:

﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾

أي يذكرون الله دائماً بكل أحوالهم،

﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾

أنواع الجهاد :

1 ـ جهاد النفس و الهوى :

الآن:

﴿ وَجَاهِدُوا ﴾

الجهاد فيه بذل جهد، والجهاد أيها الأخوة كلما ذكره بعضهم لا يفهم منه إلا الجهاد القتالي، مع أن هناك أنواعاً كثيرة من الجهاد غير القتالي، أو جهاد النفس والهوى.

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾

[ سورة الحج الآية: 78 ]

رجعنا من الجهاد الأصغر- القتال- إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى، هذا الجهاد الأساسي، تماماً كالتعليم الأساسي، الجهاد الذي لا يسبقه جهاد، المهزوم أمام نفسه لا يستطيع أن يواجه نملة، الجهاد الأول: جهاد النفس والهوى،

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ﴾

[ سورة العنكبوت الآية: 69]

الجهاد النفسي، غض البصر جهاد، ضبط اللسان جهاد، تقصي الحلال جهاد، عمل دخله فلكي كبير لكنه لا يرضي الله، وهناك عمل دخله أقل بكثير لكنه يرضي الله، هذا جهاد، فالجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى، والآية الكريمة:

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة العنكبوت]

هذا أول جهاد؛ جهاد النفس والهوى، هذا الجهاد الأساسي، هذا الجهاد الذي لا يسبقه جهاد، هذا الجهاد الذي لا بدّ منه، والمهزوم أمام نفسه في هذا الجهاد لا يستطيع أن يواجه نملة، وانتهى الأمر.

2 ـ الجهاد الدعوي :

عندنا جهاد آخر: جهاد دعوي ما دليله؟ قوله تعالى:

﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ﴾

الهاء تعود على القرآن الكريم:

﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾

[ سورة الفرقان الآية: 52]

فأن تتعلم القرآن وأن تعلمه هذا جهاد، أن تطلب العلم وأن تعلمه جهاد، أن تحضر درس علم هذا جهاد، لذلك طالب العلم تصلي عليه الملائكة في السماء والحيتان في البحر.

(( وَمَن سلكَ طريقا يَلْتَمِسُ فيه عِلْما سَهَّلَ اللهُ لهُ بِهِ طريقا إِلى الجنَّةِ ))

[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة]

طلب العلم جهاد لكن من نوع آخر، والدليل:

﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ـ بالقرآن ـ جِهَاداً كَبِيراً ﴾

صار عندنا الجهاد النفسي الأساسي الذي لا بدّ منه، جهاد النفس والهوى، رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى.

والجهاد الدعوي،

﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾

فالذي يدعو إلى الله فهو في جهاد.

3 ـ الجهاد البنائي :

عندنا جهاد بنائي، قال تعالى:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾

[ سورة الأنفال الآية: 60]

الإنسان عندما يتقن صناعته، بهذه الصناعة الوطنية التي بذلت للناس بسعر معتدل، واستغنينا بها عن الاستيراد، هذا قدم لأمته شيئاً عظيماً، هذا جهاد بنائي، كل إنسان إذا أتقن عمله هو في جهاد بنائي، وآيته الدقيقة والآية الأصل في هذا الموضوع:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

أحياناً هناك بعض الأجهزة المعقدة في المعامل، هذا الجهاز متعلق بالكومبيوتر، يصاب بالعطب، إصلاحه بالملايين، أعرف إنساناً في محافظة في بلدنا الطيب استطاع أن يكتشف طريقة إصلاح هذا القسم من المعمل، فبدل الملايين المملينة، والتأخر لمدة شهر أو شهرين، يصلحه هنا في سوريا، وبسعر معقول جداً، هذا وفر على الأمة ملايين مملينة من إصلاح هذه القطعة الخطيرة جداً في المعمل، هذا جاهد، مسلم، وفر نقدنا الثمين، وفر حاجتنا الأساسية.

4 ـ الجهاد القتالي :

صار عندنا جهاد نفسي جهاد النفس والهوى، و جهاد آخر جهاد دعوي تعلم القرآن وتعليمه، و جهاد ثالث بإتقان عملك إتقاناً بالغاً هو جهاد بنائي، فإذا نجحنا في الجهاد الأول جهاد النفس والهوى، وفي الجهاد الثاني الجهاد الدعوي، وفي الجهاد الثالث الجهاد البنائي، ينتظر أن ننجح في الجهاد الرابع هو الجهاد القتالي

فالجهاد بين أن يكون بنائياً، وبين أن يكون دعوياً، وبين أن يكون نفسياً، وأما الجهاد القتالي فحينما نحقق النجاح في الأنواع الثلاثة فالمرجح والذي يغلب على الظن أننا ننجح في الجهاد الرابع وهو الجهاد القتالي، إذاً:

﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

علامة علم الإنسان أن ينفر إلى الله :

طبعاً إلهنا، وربنا، هو الخبير، هو الخالق، هو المسير، هو الرب، يقول:

﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

أي علامة علمكم أنكم تنفرون إلى الله:

﴿ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾

[ سورة التوبة]

الأشياء القريبة من الإنسان يقبل عليها، نزهة، مكسب معين،

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ ﴾

مثلاً أنا أذكر أن إنساناً توفي رحمه الله، إذا قرأ الإمام بالركعة الأولى بالفجر آيتين زيادة عن الصفحة تقوم الدنيا ولا تقعد، دائماً يتابع الإمام على قراءته، يقول له: أطلت، فمرة إنسان استوقفه أكثر من ساعتين على الواقف بأمور التجارة، أمور شراء البيوت وبيعها، لم يتكلم أي كلمة، لم يشعر بالوقت، ما دام الموضوع متعلقاً بالتجارة، والصناعة، وأرباحه، ومكاسبه، واقف على الواقف، والجو بارد، والوقت شتاء، إذا الإمام قرأ آية زيادة عن الصفحة تقوم الدنيا ولا تقعد.

عظمة هذا الدين أن كل الوعود التي وعدنا الله بها تكون في الحقيقة بعد الموت :

أنا أقول: القضية إذا كانت متعلقة بالدنيا الوقت مبذول لها من دون قيد أو شرط، وإذا كان الأمر متعلقاً بالآخرة يقولون: اسمح لنا لقد تأخرنا، اجلس جلسة الحديث فيها عن التجارة، أو الصناعة، أو المكاسب، أو المشاريع، تجد الكل يجلس و يتابع الحديث، أما إذا كان الحديث عن الدين، فيقولون لك: اسمح لنا تأخرنا، عندما تكلمت بالدين اسمح لنا، لأن هذا الموضوع خارج اهتمامه، هذا معنى الآية:

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً ﴾

أي تجارة مربحة، منصب رفيع، نزهة رائعة، رحلة ممتعة، أشياء قريبة، تلبي حاجة الإنسان المادية، سهرة لطيفة مثلاً، وإذا الإنسان له معصية - والعياذ بالله - يحبذها.

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ﴾

هذه لبعد الموت، عظمة هذا الدين أن كل الوعود التي يعدك الله بها هذه تكون في الحقيقة بعد الموت، أما في الحياة فهناك متاعب.

(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله در بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي))

[ من كنز العمال عن ابن عمر ]

إذاً

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ﴾

موضوع الموت كفكرة وارد في حياة الإنسان أما كحقيقة فبعيد عن حقيقته :

أخواننا الكرام، لذلك الإنسان بحياته موضوع الموت كفكرة وارد، أما كحقيقة فبعيد عن حقيقة الموت، كل إنسان ساكن ببيت، عنده زوجة وأولاد، له عمل، له دخل، أما مغادرة الدنيا من البيت إلى القبر، من أولاد إلى القبر، من زوجة إلى القبر، من أحفاد يملؤون البيت فرحة إلى القبر، من نزهات إلى القبر، من اجتماعات إلى القبر، من مظاهر الدنيا إلى القبر، فموضوع القبر شيء مخيف.

ورد في بعض الآثار:

(( أن الميت حينما يوضع في القبر ينادى أن عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت ))

أخواننا الكرام، إن روح الميت ترفرف فوق النعش، تقول: يا أهلي! يا ولدي! لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحرم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة عليّ، ونفس محمد بيده ما من بيت إلا وملك الموت يقف فيه في اليوم خمس مرات، فإذا وجد أن العبد قد انقضى أجله، وانقطع رزقه، ألقى عليه غم الموت فغشيته سكراته، فمن أهل البيت الضاربة وجهها، والممزقة ثوبها، فيقول ملك الموت: ممَ الفزع؟ وفيمَ الجزع؟ ما أذهبت لواحد منكم رزقاً، ولا قربت له أجلاً، وإن لي فيكم لعودة، ثم عودة، حتى لا أبقي منكم أحداً، فو الذي نفس محمد بيده لو يرون مكانه، ويسمعون كلامه، لذهلوا عن ميتهم، ولبكوا على أنفسهم.

العاقل من أعدّ لساعة الموت عدتها :

يقول لك الإنسان: مسكين مات! أنت ألست مسكيناً؟ أنت ألن تموت؟ مسكين مات! صدق ولا أبالغ الموت كفكرة سهل جداً، أما أن تعيشه بتعبير دارج عندما تأتي قضية متعلقة بالقلب واحتمال الموت قائم، ينسى حليب أمه، الموت شيء مخيف، موت للقبر، وأنا أنصح كل إنسان أراد أن يتعظ رأى جنازة، ولو لم يكن له علاقة بالميت اتبع هذه الجنازة، النعش موضوع، يفتح النعش، يحمل الميت، يوضع في القبر ، توضع البلاطة، يهال التراب عليه، انتهى، عظم الله أجركم، ساكن ببيت أربع وصالون، هو عمل الجبصين، هو اشترى الثريات، هو اشترى السجاد، هو نظم البيت، هو اختار الأثاث.

أنا أحياناً أكون في تعزية ببعض الأحياء الغنية جداً، أحضر، أقول: من اشترى الثريات؟ المرحوم حتماً، من عمل الجبصين واختاره بهذا الشكل؟ المرحوم، من اشترى هذا السجاد؟ المرحوم، من صمم هذا البيت؟ المرحوم، أين المرحوم؟ هل هناك واحد من الحاضرين وأنا معكم يستطيع ألا يموت؟ يستطيع الواحد منا وأنا معكم أن يستيقظ كل يوم مثل اليوم السابق دائماً؟ مستحيل! مثلاً عنده مشكلة بالقلب، يذهب إلى المستشفى، عدة أيام يضعون نعوته، هذا ينتظرنا جميعاً، الله يمد بأعماركم، لكن سنموت كلنا، لابد من الموت، لكن من هو البطل؟ من هو العاقل؟ من هو الذكي؟ الذي يعد لهذه الساعة عدتها.

أنا أعرف إنساناً -والله لا أبالغ لأن القصة قد لا تصدق- بأول بناء، بأرقى أحياء دمشق كان له بيت مساحته خمسمئة متر، أكبر بناء، ابنه صديقي زرته، شيء مثل الخيال، قسم شرقي، قسم غربي، أناقة الأثاث، عنده تحف، التحفة ثمنها بالملايين، هذا توفي في أيام مطيرة في دمشق، وأنا طبعاً كون ابنه صديقي، كنت في الجنازة، القبر الذي يدفن به فيه مياه سوداء، فلتت مياه المجاري على هذا القبر، فسألوه؟ قال: ضعوه ماذا نفعل؟ أنا لا أنسى هذا الموقف، إنسان بهذه الأناقة، وبهذا الغنى، وبهذا الرقي، هنا يدفن؟ هذا الذي حصل.

بطولة الإنسان أن يخطط لمعرفة الله وللاستقامة على أمره :

البطولة أن تعد لهذه الساعة، هذا القبر قد يكون روضة من رياض الجنة، وقد يكون حفرة من حفر النار، فكل بطولتك لساعة الموت، أنت مع من؟ المؤمن يعرق - هكذا ورد في بعض الآثار- قال: لأنه يرى مقامه في الجنة، فيستحي من الله، وغير المؤمن -والعياذ بالله-يرى مكانه في النار، فهذا الشيء الذي سيأتي ينبغي أن نعيشه قبل أن يأتي، البطولة أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه.

أخواننا الكرام، الآية الكريمة:

﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

أما إن كانت القضية قضية تجارة، وظيفة، رحلة إلى أوربا، فهي مكسب:

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾

البطولة أن تخطط، لأنك إن لم تُخطِط يُخطَط لك، أن تخطط لمعرفة الله، للاستقامة على أمره، ولعمل صالح تتقرب به إلى الله.

والحمد لله رب العالمين

http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=8058&id=97&sid=101&ssid=257&sssid=258